كائنات غرائبية تحلق فوق المدن اللبنانية

أكثر من 17 ألف متفرج تجمعوا لرؤية عروض أرضية وجوية

راقصات فرنسيات يؤدين وصلتهن وهن طائرات مع مظلاتهن وفي الاطار راقصة تجوب الفضاء وهي ترقص بمنطادها
TT

راقصون يحلقون في الجو وهم يؤدون وصلاتهم، نسر يخترق السماء ويبهر الأبصار، طائران ضخمان يجوبان الفضاء، بهلوانيون يقفزون على الأرض بأرجل معدنية رفاصية إلى علو مثير وهم يلعبون بالنار، ومخلوقات فضية كأنها آتية من كوكب فضائي تسير بين الحشود وهي تراقص عصيا طويلة فسفورية كأنها تغازل رؤوس الناس. عروض خرقت العادة سواء في لباسها الغرائبي أو بحجمها الكبير، أو حتى في حركاتها العجيبة التي تؤديها بصحبة موسيقى إيقاعية تجعل لكل عرض حكاية قائمة بذاتها. الناس الذين تجمعوا في أيام العيد وبعده ليتابعوا هذه العروض المدهشة، هم في غالبيتهم لم يسبق لهم أن ذهبوا إلى مسرح أو شاهدوا أعمالا فنية بهذا الحجم. عرس في كل مدينة، في صيدا بداية ثاني أيام العيد، ثم في بيروت اليوم الثالث للعيد، وبعدها طرابلس حيث أغلق شارع المعرض، أكبر وأوسع شوارع المدينة طوال النهار أمام حركة السيارات، يوم الاثنين الماضي، ليتحول بدءا من الساعة السابعة إلى مسرح كبير يجوبه الفنانون أرضا وجوا، يقدمون ما يخلب لب الناس الذين تجمهروا في الشارع ليكتشفوا ما هو «عرس المدينة» الذي دعوا إليه، من خلال منشورات وزعت في المقاهي وأماكن التجمعات، في الأيام الأخيرة من رمضان.

الحفل لم ينته بالاستعراضات التي قدمتها أربع فرق فرنسية متخصصة في عروض الشارع تعتمد الإبهار وخلب الأبصار، وجاء الفنان العراقي إلهام المدفعي لينهي السهرات الثلاث، بعد أن قدم حفله الناجح في قاعة «ألبرت هول» اللندنية مؤخرا. غنى إلهام المدفعي الذي رافقته فرقته الموسيقية أغنياته التي اشتهر بها وهي تخلط بين التراث العراقي والنغم الغربي؛ «خطار عندنا الفرح اعلق صواني شموع»، «زينه عيونك والله وخدك شمام»، «شلون حالي وشلون»، «يا محمد» وأغنيات أخرى مختارة من التراث العراقي. أبدع عازف الإيقاع في الفرقة، وبقي إلهام المدفعي يعزف على غيتاره ويغني حتى ينتصف الليل في حفلات، جمعت ما يزيد على 17 ألف متفرج من مختلف المناطق اللبنانية.

مضت حفلات العيد متنوعة خلطت بين الغناء والاستعراضات، التي شارك فيها 28 فنانا فرنسيا، يساندهم 6 فنانين لبنانيين من مهرجين وممثلين صامتين ورسامين، خلفهم جميعا «جمعية نبض للثقافة والفنون» التي نظمت الحدث الكبير، وأريد له أن يكون جماهيريا ويقدم بالمجان، خاصة لأولئك الذين لا تسمح لهم أوضاعهم المادية بالذهاب إلى المسرح.

«مؤسسة الحريري للتنمية البشرية المستدامة» هي صاحبة المبادرة والتمويل، في ما أخذت «نبض» على عاتقها مهمة التنفيذ. مسؤولة الجمعية وفاء خشن سبق لها أن نظمت مهرجانين لعروض الشارع قدمتهما في سنوات سابقة في مدينة صور، ثم قامت العام الماضي بتنظيم الاحتفالية لثلاث ليال في صيدا بمناسبة العيد، واتخذ المشروع هذه السنة شكلا مختلفا مع تعميم العرض على ثلاث مدن. كل مدينة كان لها رد فعل مختلف، بحسب المنظمين. في بيروت، حضر العرض أكثر من 12 ألف متفرج، لم يكن الفنانون خلاله في حاجة حقيقية إلى حماية أمنية من فضول المتفرجين، ربما لأن سكان بيروت اعتادوا عروض الشارع، التي لم تعد غريبة عنهم. «في صيدا كان الوضع مختلفا»، تقول إحدى المشاركات في التنظيم. هناك كان كثير من الأطفال يحملون ألعابا على شكل مسدسات وبنادق، أحدهم صوب نحو إحدى الراقصات أثناء تحليقها في الجو وأصابها في رقبتها وكاد يؤذيها. كان لا بد من التدخل بشكل مستمر لشرح الفكرة للجماهير الغفيرة التي ملأت المكان. في طرابلس لم يكن التجمع كبيرا بالقدر المنتظر، وتلقى المتفرجون ما قدم لهم بكثير من البهجة والفرح.

تشرح إحدى المنظمات للتظاهرة، بأن عروض الشارع التي أصبحت شائعة بشكل كبير في أوروبا لا تزال في بداياتها في العالم العربي، وفي لبنان بطبيعة الحال. لكن ما هو أكيد أن وجود هذا النوع من الأنشطة يحرك العجلة الاقتصادية ويبث الحيوية في أجواء المدن. فأحد سائقي التاكسي في بيروت، تكلم عن حركة غير مسبوقة في اتجاه الكورنيش البحري يوم العرض البيروتي، مما جعله يربح 75 دولارا في ثلاث ساعات، وهو ما لا يحدث في الأوقات العادية، هذا إضافة إلى حركة المحال التجارية، والمطاعم والمقاهي.

المنظمون يتحدثون عن مجرد بداية، وأن الأعياد المقبلة لا بد أن تشهد أنشطة تصل إلى عدد أكبر من الناس، على أن تصبح عروض الشارع جزءا من حياة السكان، كما هي الحال في دول أخرى. فالدراسات التي أجريت حول هذا الموضوع كلها تثبت أهمية إنعاش الشارع بالعروض الفنية، وتقريب الإبداع من الناس، بجلبه إليهم حيث هم، إن كانوا لا يستطيعون الوصول إليه؛ إما لأسباب مالية، أو لعدم تجذر عادات من هذا النوع في بعض المجتمعات. فالمبتكرات الفنية المعتمدة على الإثارة والدهشة التي تقدمها عروض الشارع، هي عبارة عن لغة بصرية يفهمها كل من يراها، وتصل إلى الجميع، بصرف النظر عن لغتهم أو مستواهم الثقافي. لذلك فإن استقدام فرق أجنبية لإحياء مثل هذه المناسبات لا يحول دونه لغة أو جنسية الفرقة.

وعلى الرغم من أن الضخامة التي شوهدت في الشوارع خلال أيام العيد وبعدها، تشي بأن المعدات التي استخدمتها الفرق كبيرة وذات وزن ضخم، فإن الواقع غير ذلك؛ فهي فرق طوعت نفسها على التنقل، باستخدام أدوات سهلة الحمل، يعتمد غالبيتها على النفخ والطي. الانتقال خلال ثلاثة أيام من دون توقف من مكان إلى آخر، كان يحتاج إلى سرعة في التدبر، وجهدا استثنائيا من المنظمين، لكن الاختبار مر بسلام، والاحتفالات قدمت كما كان يؤمل لها، في حين أصبحت أعين المنظمين على الأعياد المقبلة التي يجب أن تكون أبهى وأمتع.