ألواح طينية تدون مجريات الحياة اليومية في العراق قبل 4 آلاف عام.. تعود إلى بغداد

صادرتها الجمارك الأميركية في مارس 2001.. وبقيت في قبو مركز التجارة العالمي بعد تفجيره

الألواح الطينية بعد إعادة ترميمها (نيويورك تايمز)
TT

بدأت الرحلة الخيالية لـ362 لوحا من الطين والألواح القديمة المكتوبة باللغة المسمارية في العراق عام 2030 قبل الميلاد لتمر بدبي ونيوارك وتصادرها الحكومة الأميركية وتعايش هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) لتعود أخيرا إلى موطنها الأصلي. في مارس (آذار) 2001 كانت هيئة الجمارك الأميركية تحقق في محتويات معرض بنيويورك يشتبه في ضلوعه بالاتجار في القطع الفنية والآثار المسروقة عندما وردت للمحققين معلومة عن صندوقين يحتويان على «قطع من الصلصال» من سورية، تم تهريبهما إلى أميركا عبر دبي. وعندما فحص المحققون الشحنة في نيوارك وجدوا ألواحا مكتوبة باللغة المسمارية، كل منها أصغر من ورق اللعب، وذكر الخبير الذي تحقق من أصالتها أنها سرقت من جنوب العراق. في ذلك الصيف، وضعت الألواح حيث تخزن كل الأغراض المصادرة ـ في سرداب في قبو إدارة جمارك الولايات المتحدة في مبنى مركز التجارة العالمي رقم 6.

وقال جيمس ماك أندرو، العميل الخاص في وكالة الجمارك والهجرة، الذي تولى القضية: «قمنا بتخزين الألواح هناك وعندما وقعت تفجيرات 11 سبتمبر دمر المبنى مع كل شيء آخر. كنت مشدوها وخائفا إلى أقصى درجة». كان المبنى يضم كل شيء بدءا من الساعات الرولكس المقلدة ومشغلات اسطوانات «دي في دي» إلى البطاريات، كما كانت أيضا مكانا مؤقتا لحفظ المخدرات والأسلحة والنقود المصادرة. وبمجرد التأكد من سلامة القبو وإمكانية العودة إليه، بعد أقل من أربعة أسابيع من هجمات 11 سبتمبر، أرسلت دائرة الجمارك عملاءها لاستعادة الأسلحة والمخدرات والمال لكنهم جلبوا أيضا صندوقين كبيرين ثقيلين يحتويان على الألواح. وقدرت قيمة هذه الآثار فيما بعد بنحو 330.000 دولار لكن ماك أندرو قال إن من الصعب تقييم القيمة الحقيقية لهذه الآثار التي تشرح المعاملات اليومية في العراق القديم (وصولات تخص بضائع وخدمات وكذلك سجلات ملكية وأشعار بل وحتى تكهنات يعتقد أنها تتنبأ بالمستقبل). وقال ماك أندرو: «إذا وجدت مجموعة كاملة منها، فذلك أشبه ما يكون بتصفح يوميات الحياة هناك. إنها لحظة نادرة أن تتمكن من قراءة تاريخ لشعب كتب في تلك الفترة». واحتوت ألواح، اكتشفت سابقا، على كل شيء؛ بدءا من ملحمة جلجامش إلى قصة الطوفان التي توازي قصة نوح. ولا تزال هذه الأحجار موضع دراسة بنجامين ستوديفانت هيكمان، أستاذ الحضارة الآشورية في جامعة هارفارد، لكنه توصل مؤخرا إلى أن الشخصية المحورية التي تتناولها هذه الألواح أسمها آراد مو. ويرى ستوديفانت هيكمان أن العلماء يعلمون أنه في عهد سلالة أور الثالثة (عصر النهضة السومرية بين 2100 و2000 قبل الميلاد) كان آراد مو واحدا من كبار موظفي الدولة ويلي الملك في الأهمية السياسية، وكان يشغل حينها منصب وزير الخزانة. ولم يتم التثبت بعد مما إذا كان آراد مو المذكور في الألواح هو ذات الشخص أم لا. وعلى الرغم من أن عودة المقتنيات الثقافية، لم تكن تحتل أولوية كبيرة بعد هجمات 11 سبتمبر، فإن الحكومة الأميركية وضعتها في مكان آمن في نيوارك، ولم يفتح ماك أندرو الصناديق حتى عام 2004. وقبل أن يتم تخزينها وضعت الألواح في مناشف ورقية وغلفت بالبلاستيك المفقع لكن رغم ذلك تعرضت لأضرار بالغة. فعلى عكس منتجات الصلصال الحالية، التي عادة ما تستعمل الأفران في صنعها ثم تصقل حفاظا عليها، تركت هذه الألواح في الشمس كي تجف، كما أنها تحتوي على رواسب الملح الموجودة في التربة العراقية. وعندما تعرضت للماء نتيجة هجمات 11 سبتمبر تسببت المياه في طفو الملح على السطح مما أدى إلى تهشمها. وقال ماك أندرو: «عندما حملنا الكثير من هذه الأكياس الصغيرة، التي كانت في الجزء الأسفل من الصناديق كان الأمر أشبه بالإمساك بأكياس الحصى أو الرمل. وهو ما أحزنني للغاية». وشارك جون رسيل، أستاذ تاريخ الفن في كلية ماساتشوستس للفن والتصميم الذي يعمل مع وزارة الخارجية كمستشار للإرث الثقافي العراقي، في عملية إعادة هذه الآثار إلى السفارة العراقية في واشنطن ورأى أن من الأفضل أن تعاد في حالة مستقرة وسليمة. وقال رسيل: «يمكنك القول إن التاريخ بدأ مع بداية هذه الألواح، فهي بمثابة السجل الكامل للعراق القديم محفوظ في هذه الألواح المسمارية والوثائق المكتوبة باللغة المسمارية الأخرى التي صنعت في زمن هذه الحضارة القديمة، وكل ما نعرفه عن حضارة العراق نعرفه من مثل هذا النوع من الوثائق». ومنح العراق الإذن بترميم الآثار وقامت وزارة الخارجية الأميركية بتمويل المشروع بقرابة 100.000 دولار، وأُوكلت مهمة إعادة جمع الأحجار سوية مرة أخرى إلى دنيس وجين دارك بيكوتا، فريق مؤلف من زوج وزوجته من مرممي الآثار يعملان في ترميم الآثار القديمة. وفي سبتمبر 2008 كانت الألواح جزءا من مجموعة كبيرة من المقتنيات التي أعيدت إلى الحكومة العراقية في احتفال جرى في السفارة العراقية في واشنطن وشرع الزوجان بيكوتا في العمل بعد شهر من ذلك. في البداية قام فريق الترميم بتسخين الألواح على نار هادئة في فرن يتم التحكم في درجة حرارته بالكومبيوتر، حيث يتم تسخينها لتكون مقاومة للماء، ثم نقعت بعد ذلك في أكياس تحلية خاصة لاستخراج الأملاح المتبقية. وبعد الجفاف الكامل للألواح شرعوا في تنظيفها وإصلاحها باستخدام الأكريليك كمادة لاصقة. وقال بيكوتا: «نحن نحاول إعادة إصلاح كل شيء، حتى أصغر الأجزاء التي تتطلب ملاقيط لحملها، لأن بها نقوشا، والأمر كله متعلق بقراءة هذه الألواح». وبسبب تكسر الصلصال في بعض الأحيان خلال عملية التسخين، قاموا بالتقاط صور للألواح قبل العملية واستخدموها كدليل. ويضيف بيكوتا: «كنا نقوم بقراءة سطح اللوح ونعامل كل قطعة وكأنها قطعة في أحجية الصور المقطعة، نبحث عن التغير اللوني أو القطع الصغيرة كدليل». وأمضى الزوجان بيكوتا 18 شهرا في إنهاء المهمة، ونتيجة لعدم الاستقرار في العراق، لم يشعر العراقيون بأن الوضع الأمني يسمح بإعادة هذه الآثار إلى البلاد. ولكن في السابع من الشهر الحالي أعيدت الألواح مرة أخرى إلى العراق في احتفال أقيم في المتحف الوطني ببغداد. وقال رسيل: «لقد كانت بالفعل رحلة مجنونة، العراق ينهض من كبوة كبيرة، وأعتقد أن إعادة هذه الألواح لأصحابها في حالة مستقرة هي وصف مجازي لما يقوم به العراقيون أنفسهم».

* خدمة: «نيويورك تايمز»