عين على الماضي وأخرى على الشباب

اليوم الأول من أسبوع موضة لربيع وصيف 2011.. الهدوء الذي يسبق الجنون

TT

الأوساط اللندنية سعيدة بصدور تقرير يؤكد بالأرقام أن صناعة الموضة ليست مجرد أزياء وإكسسوارات أنيقة وماكياج، بل هي صناعة يحسب لها ألف حساب في كل عواصم العالم، بدليل أنه أصبح لكل بلد أسبوع يحاول أن يحفر لنفسه مكانة ما مدعوما بحكومة ورجال أعمال ونجوم. إذن المسألة ليست «بريستيج» فحسب، بل وراءها تسويق وتجارة وأرباح. وهذا ما أكدته لندن منذ أيام، قبل انطلاق أسبوعها لموضة الربيع والصيف المقبلين، بنشرها دراسة تنفي عن نفسها صفة السطحية والنخبوية وتؤكد أنها صناعة تقدر بـ21 مليار جنيه إسترليني، وتشغل ما لا يقل عن 816 ألف شخص، هذا فضلا عما تدره على قطاع السياحة ومواقع الإنترنت من أرباح تقدر بـ16 مليار جنيه استرليني. هذه الأرقام صرح بها الرئيس التنفيذي لأسبوع الموضة اللندني، الأنيق هارولد تيلمان، الذي يمتلك ماركات مهمة مثل «يايغر» و«أكواسكوتم» مساء يوم الخميس الماضي. كان واثقا ومزهوا مثل طاووس وهو ينفش ريشه، وهو يلقي خطابه الرسمي لإعلان انطلاق الأسبوع، ولم لا؟ فقد كان مسنودا بالدراسة التي قام بها مستشارو اقتصاد من أوكسفورد. وبهذا تكون الموضة، في بريطانيا على الأقل، في أهمية صناعة المأكولات والمشروبات وأكثر أهمية من قطاع العقارات وصناعة السيارات وما شابهها. صباح يوم الجمعة وفي الطابور الطويل الذي يسبق دخول عرض المصمم الآيرلندي بول كوستيلو، كانت هذه الأرقام هي حديث محررات الأزياء، ونجحت إلى حد كبير في كسر البرودة التي تسود في مثل هذه المناسبات التي لا يعرف فيها البعض البعض الآخر. كان واضحا أن نتائج الدراسة أثلجت صدور العاملين في قطاع الموضة، كما لو أنها ردت إليهم اعتبارهم، وأصبح بإمكانهم الآن الاستناد على هذه الأرقام عندما يدافعون بأنها ليست ألوانا وأقمشة ولا هي جنون وفنون فحسب، بل هي أيضا وسيلة «أكل عيش» بالنسبة للعديد من الناس. توقيت صدور الدراسة مهم جدا، لأنه سبق انطلاق أسبوع لندن بأيام فقط، الأمر الذي يستهدف استقطاب اهتمام وسائل الإعلام العالمية حتى تحافظ العاصمة البريطانية على الإيقاع والسخونة اللذين عاشتهما في المواسم القليلة الأخيرة. تحديدا منذ بلوغ الأسبوع ربع قرن، والذي شهد عودة أسماء كبيرة للعرض فيه، بدءا من ماثيو ويليامسون، إلى داري «بيربيري» و«برينغل» وغيرهم، فضلا عن إدخال سارة براون، زوجة رئيس الوزراء السابق غوردن براون، وسائل الإعلام العالمية إلى 10 داونينغ ستريت، مما أعطاه دفعة كبيرة، وجذب له المزيد من الاهتمام الإعلامي والتجاري على حد سواء.

قوة «لندن» هذا الموسم تقوم مرة أخرى على مشاركة بيوت لها إرث عريق مثل «بيربيري» و«برينغل» إلى جانب أسماء مخضرمة فرضت نفسها رغم السنوات والأزمات مثل السير بول سميث ونيكول فارحي وبيتي جاكسون وفيفيان ويستوود، من دون أن تتجاهل حقوق المصممين الشباب عليها. فهم الذين يمنحونها حيويتها وشقاوتها وابتكارها، مثل كريستوفر كاين، إيرديم، الثنائي وراء اسم بيتر بيلوتو، مارك فاست، ماريا كاترانزو وغيرهم.

أما التوقعات بالتوجهات التي ستطل علينا هذا الأسبوع، فأغلب الظن أنها ستكون واقعية ورزينة، إلى حد ما، مقارنة بسنوات البريق والطفرة الاقتصادية، كما أنها ستأخذ بعين الاعتبار تضاريس المرأة الأنثوية كما رسمها فنانو النهضة والقرون الماضية، لا كما تخيلها المصممون منذ التسعينات من القرن الماضي: نحيلة بمقاييس صبيانية. بعبارة أخرى، فإن التوقعات كانت تشير إلى يوم الأمس إلى أن مقاس صفر لن يكون هو الموضة الوحيدة على منصات عروض الأزياء، وأن المصممين لن يتجاهلوا المرأة الممتلئة المحددة المعالم، الأمر الذي لم يتجسد في اليوم الأول بصورة واضحة، فقد كانت أغلب العارضات نحيفات بصدور ضامرة وإن كانت هناك تصميمات منسابة وأخرى بطيات تراعي تضاريس المرأة العادية. المخضرم بول كوستيلو بدا متحديا بقوله إن تشكيلته تخاطب زبونة رشيقة ونحيلة وذكية، علما أن هذا لم يكن التحدي الوحيد في عرضه. فهذا المصمم الستيني سبح ضد التيار السائد على ساحة الموضة، فيما بقي الشيء الثابت والوحيد أنه، وككل موسم، أول من افتتح الأسبوع صباح يوم الجمعة على الساعة التاسعة. تشكيلته لربيع وصيف 2011 حادت عن أسلوبه الكلاسيكي المعهود، الذي يخاطب الأمهات ويتجاهل البنات، وعانقت الطول القصير جدا، علما أن هذا الطول تراجع في الآونة الأخيرة لصالح الـ«ماكسي» أو الطول الذي يغطي الركبة ونصف الساق، وقلما نراه على منصات عروض الأزياء حاليا. لكن بول كوستيلو أراد على ما يبدو مغازلة الصغيرات لا سيما أنهن أصبحن يتمتعن بقوة شرائية لا يستهان بها. الألوان المعدنية وخاصة اللون الماسي إلى جانب الأخضر والوردي، والنقوشات المربعة، والتنورات المنفوخة والفيونكات التي زينت بعض القطع شفعت له الطول القصير، الذي لم يكن متوقعا، لأنها أضفت على القطع شقاوة بنات في المقام الأول، وعكست نظرة واضحة ورغبة صريحة في تجديد نفسه بعد سنوات من التصميمات الرزينة. ما زاد في توضيح هذه الرغبة ظهوره في آخر العرض بسترة وربطة عنق رسمية مع بنطلون مستقيم وحذاء رياضي ولسان حاله يقول: «يا ليت الشباب يعود يوما». لم ينس بالطبع زبونات من جيله، وقدم لهن معاطف كلاسيكية وقطعا مفصلة على شكل تايورات وفساتين ناعمة.

في المقابل، قدمت المصممة الشابة ماريا غراشفوغل، تشكيلة هادئة في ظاهرها لكن تقطر نعومة وأنوثة بطياتها وثنياتها التي تعانق أجزاء معينة من الجسم وتتبع انحناءاته وتضاريسه لإخفاء ما يجب إخفاؤه وإبراز ما يمكن إبرازه. كان العرض مفاجأة سارة في كل تفاصيلها، فالموسيقى التي انبعثت من وراء الكواليس كانت تعلن عن عرض صاخب بالألوان ونقوشات الغاب والأدغال، لكن ما رأته العين كان على العكس من ذلك تماما. 36 قطعة بالتمام والكمال تلبي كل احتياجات المرأة العصرية، حملت الحضور إلى بحار لازوردية وشواطئ ذهبية تنعم بأشعة شمس دافئة ويخوت فخمة، ومنحتهم، ولو لبضع دقائق، شعورا بالسكينة والاسترخاء اللذيذ، خصوصا أن معظمهم كان مشدود الأعصاب بسبب زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر إلى العاصمة البريطانية مما تسبب في عرقلة المواصلات وزحمة الطرقات نتيجة إغلاق العديد منها، مما أدى إلى وصولهم بعضهم متأخرا يتصبب عرقا.

المفاجأة الأخرى برزت في تركيزه على أزياء عملية للنهار تلعب على التفصيل والانسيابية في الوقت ذاته. ففي حين جاءت البنطلونات واسعة بخصر عال رحيم بجسم المرأة، جاءت الفساتين بأشكال مغرية براحتها وأناقتها. فهي تبدو واسعة مستوحاة من خطوط القفاطين العصرية أو الجلابيات العربية بعمليتها وراحتها وأطوالها المتباينة، لكن اتساعها يموه عن تفصيل ذكي من الجوانب وبأقل قدر من الحياكة، يجعلها تسلط الضوء على رشاقة صاحبتها عوض أن تصبغ عليها حجما كبيرا. نفس الأسلوب اتبعته في الفساتين الطويلة التي يمكن ارتداؤها في المناسبات والمساء، أو في الأيام الصيفية على متن يخت. الألوان أيضا كانت مركزة وغلب عليها الرمادي الماسي إلى جانب زخات من الأصفر الليمون والأزرق.

على العكس من ماريا غراشفوغل، خاصمت المخضرمة كارولين تشارلز الأسلوب الانسيابي وعانقت التفصيل في تشكيلة غلبت عليها الفساتين الناعمة والتنورات المستديرة والجاكيتات. تشكيلتها أشارت إلى أنها من جيل لا يقبل على التغيير بسهولة، فكل ما فيها يحن إلى موضة الخمسينات والستينات من القرن الماضي. بدأ العرض في الستينات مستحضرا صور نجمات مثل إليزابيث تايلور وجينا لولو بريجيدا وبريجيت باردو، من خلال فساتين ناعمة مطبوعة بالورود وقبعات بكل شكل وأحزمة ناعمة تحدد الخصور، لتنتقل إلى الخمسينات من خلال تايورات وفساتين ناعمة أيضا محددة بأحزمة بألوان مشعة، علما أن الأحزمة كانت من الإكسسوارات المهمة في العرض إلى جانب أحمر الشفاه القاني، الذي يستحضر نجمات مثل ريتا هايوارث ولورين باكال وغيرهما. لم تكن التصميمات ثورية ولا حتى جديدة، فهي كلاسيكية في ملامحها وتفصيلها، وربما هذا ما تريده كارولين، لأنه قد يكون الشيء الذي يجعل شابات مثل فتاة المجتمع باريس هيلتون يقبلن عليها. فهذه الكلاسيكية المبالغ فيها تجعلها لذيذة ومثيرة عندما تلبسها شابة جريئة تريد أن تلعب بالموضة لتعبر عن شقاوتها وجرأتها، لكن الخطر يهدد المرأة الناضجة والمحافظة التي قد تبدو فيها «دقة قديمة». الألوان أيضا كانت مثيرة للانتباه، فباستثناء النقوشات والورود والوردي والأحمر المشع والتطريزات، كان هناك الكثير من الأسود. وهذا بحد ذاته أمر مقبول عندما تكون الأقمشة ناعمة وخفيفة تناسب أجواء الصيف، لكن عندما تكون خاصة بالشتاء مثل التويد أو الصوف المخلوط بالحرير، فإن الأمر يصيب بالحيرة ويثير التساؤل إلى أي موسم تتوجه هذه التشكيلة.