صراع الخيال والواقع

أسبوع لندن لربيع وصيف 2011 بين الرغبة في الانطلاق وضرورة التسويق

TT

في اليوم الثاني من أسبوعها لربيع وصيف 2011، لا تزال لندن تتجاذب بين الرغبة الملحة في الابتكار والانطلاق وبين إملاءات السوق وفروض العملية والواقعية. فهذه المدينة التي يجري في عروقها الجنون والابتكار ويتجذر فيها التاريخ والكلاسيكية، وشهدت ولادة التنورة القصيرة «الميني» في الستينات، كما أتقنت التفصيل على يد خياطيها في «سافيل رو» حيث أعطوه مفهومه وحددوا معالمه كما نعرفه اليوم، تريد أن تمسك العصا من الوسط، الأمر الذي يشكل صعوبة على توازنها. فما لا يختلف عليه عارفان أنها عاصمة معروفة بخصوبتها وكرمها، ففيها ولدت العديد من الأسماء التي حلقت للعالمية، من أمثال الراحل ألكسندر لي ماكوين الذي ستحتفل بذكراه غدا الاثنين في حفل خاص، وجون غاليانو وستيلا ماكارتني وهلم جرا، وبالتالي من حقها الحفاظ على هذه الخصوبة ومقاومة أي علامات يأس أو إحباط قد تمس شبابها من قريب أو بعيد. أمر متعب بالنسبة لها، لكنه يضفي على أسبوعها الكثير من التنوع ولا يجعل المتابع فيه يشعر بأدنى ذرة ملل تتسرب إلى نفسه. منذ بداية هذا الأسبوع، تجلى تجاذبها في محاولتها التوفيق بين الأنثوي الناعم الذي سيسهل تسويقه وبين الحداثي والشبابي المستقى من ثقافة الشارع، والذي يعتبر بصمة من بصماتها الوراثية إن صح القول، فهو الذي يميزها ويعطيها أهميتها الحالية كأهم مركز للموضة. نعم، أهم حتى من أسبوع نيويورك، على الأقل من ناحية الإبداع، فيما لا تزال تحاول اللحاق بغيرها من الناحية التسويقية والتجارية. فالملاحظ أنها فعلا انتعشت أكثر خلال الأزمة مقارنة بغيرها، ربما لأنها كانت أصلا تعيش في أزمة مما جعل قدرتها على التحمل أكبر، عدا أنه عندما ألمت الأزمة بالموضة تسارع أبناؤها في العودة إليها مثل «بيربيري»، «برينغل» ماثيو وليامسون وغيرهم، ليعود إليها بريقها وحيويتها. بغض النظر عن أسبابهم فإن هؤلاء ساعدوا على تحريك مياهها الراكدة، وحقنوها بجرعات فيتامين قوية رغم أن أسبوعها لا يتعدى الخمسة أيام مقارنة بنيويورك أو باريس أو ميلانو التي قد يصل فيها الأسبوع إلى ثمانية أيام طويلة ومتعبة. لكن كما يقال فإن العبرة في الكيف وليس في الكم، وهذا ما تحاول عاصمة الضباب التركيز عليه بمشاركة 66 مصمما و23 عرضا جانبية فضلا عن صالونات خاصة لمصممين مثل ستيلا ماكارتني لصالح «أديداس» وأنيا هيندمارش مصممة الإكسسوارات المعروفة وآن صوفي باك وآخرين. وحسب المراقبين وتصريحات المسؤولين عن الأسبوع، فإن لندن قفزت قفزة هائلة إلى الأمام كأهم وجهة لوسائل الإعلام مقارنة بسنواتها العجاف قبل أن تبلغ ربع قرن. قبل هذا كانت محررات الموضة يتجاهلنها، وفي بعض الأحيان يعتبرنها مجرد محطة «ترانزيت» من نيويورك إلى ميلانو. أما اليوم فإن مصمميها لا يحتاجون سوى إلى بعض الوقت للتأقلم مع متطلبات السوق ومن ثم إتقان المعادلة الصعبة بين الابتكار وبين التسويق، علما أن معاناتهم تتلخص في صراعهم بين الحفاظ على قوتهم الإبداعية وشطحاتهم المجنونة، وبين محاولتهم ترويض جنوحهم لإرضاء السوق. لهذا فإن المتابع لأسابيعها الأخيرة، لا بد وأن يلاحظ أن الفرق بين عروضها بالأمس القريب وعروضها اليوم كبير، فالجنون الذي طبعها وأعطاها شخصيتها، بدأ يبهت ليحل محله ابتكار واقعي، على يد مصممين من أمثال كريستوفر كاين، عصمان يوسفزاده، ماريا كاترانزو والبقية تأتي. ما يحسب للندن أكثر أنها ولادة ومنفتحة على ثقافات الغير وأيضا على مواهبهم. فهي تفتح لهم دائما صدرها وأذرعها مرحبة ومفسحة لهم المجال للتعبير عن فنيتهم وشطحاتهم في حلباتها بغض النظر عن جنسياتهم. من هؤلاء المصمم التركي الأصل بورا أكسو المعروف بألوانه الصارخة ونقوشاته التي تتضارب في تناغم عجيب أصبح لصيقا بهما، وإن كان هذه المرة لن يروق الجميع. فقد ركز على النمل وشرحه من الرأس إلى الصدر ليزين فساتين وتنورات، بل حتى على الشعر باستعمال قطع من الصوف على شكله. برر اكسو الأمر بقوله إن منظر النمل في الصيف وهو يتحرك ويعمل، ألهمه خصوصا أن أشكاله كانت مثيرة بالنسبة له. لكن إذا كان منظر النمل على صدرك أو شعرك لا يثير حساسيتك، فإن عرضه يوم الجمعة بعد الظهر، كان عبارة عن شلال من أقمشة الشيفون والبروكار والساتان التي تخللتها كشاكش وفيونكات و«درابيه». وعلى غير العادة جاءت الألوان ترابية هادئة على خلفية من الرمادي العميق والأزرق النيلي والأسود مع زخات من المعادن البراقة والأحمر. مثل بول كوستيلو الذي تغنى بـ«الميني» كما لو كان يريد التذكير بأن هذه القطعة ولدت هنا في الستينات، عاد بورا اكسو أيضا إليها في مجموعة من التنورات والفساتين البالغة الأنوثة، لكن لحسن الحظ قدم أيضا بنطلونات لاصقة كما لو كانت جوارب سميكة مطرزة ومنقوشة يمكن بسهولة تنسيقها معها للحصول على مظهر يناسب الأيام والمناسبات العادية.

السنغافوري أشلي إيشام، الذي يشارك في الأسبوع منذ عام 2000، قدم بدوره تشكيلة تتباين بين التفصيل الكلاسيكي وبين الابتكار باستعمال أقمشة مستقبلية وتصميمات حداثية. أطلق على تشكيلته «الفردوس الشرقي» واستهلها بفساتين من الجيرسيه باللون الأسود تظهر من بين ثنياتها على الخصر أو الأكتاف تطريزات كريستالية، لكن سرعان ما تغيرت الألوان لتشع بدرجات قوس قزح وورود تزين الفساتين والشعر وأقمشة من الشيفون والتول وكريب جورجيت تظهر عليها تطريزات يطلق عليها العاملون في المهنة «أوكسجين» وهي عبارة عن فقاعات مستديرة من المعدن تطرز على أقمشة شفافة لتغطي مجموع الفستان. باستثناء المجموعة الأولى بالأسود وقطع متناثرة في آخر العرض بألوان زاهية وتطريزات ذهبية تخاطب المرأة التي تريد أن تتألق في مناسبة خاصة جدا، فإن التصميمات التي طغت على عرضه تميزت بالحداثة بأكتافها العريضة والعالية وبريقها النابع من ألوانها المعدنية والتي قد تجد فيها «اللايدي غاغا» بغيتها.

الثنائي الاسترالي وراء ماركة «ساس أند بيد»، سارة جاين كلارك وهايدي ميدلتون، قدمتا مساء يوم الجمعة عرضهما في دار الأوبرا وسط لندن غلب عليه الحرير المطبوع برسومات ديجتالية على أرضية هادئة بألوان ترابية مثل النحاسي والكاكي والكريمي، تتخللها بين الفينة والأخرى زخات من الألوان المتوهجة. بالنسبة للتصميمات فكانت متنوعة حقا، وسواء كانت بتفاصيل منسابة أو محددة أو معقودة أو ملفوفة فإن الخطوط كانت بسيطة تزينها معادن براقة وغيرها. وكانت كلارك وميدلتون قد عرضتا في نيويورك سابقا لكنها عادتا إلى لندن، التي شهدت بدايتهما في سوق «بورتوبيلو» الشعبي حيث كانتا تبيعان بنطلونات جينز سرعان ما أثارت الانتباه إليهما، وشجعتهما على التوسع. أما المخضرمة بيتي جاكسون، فقد استعملت أنواعا مترفة من الأقمشة والتقنيات الحديثة لتجديد تشكيلتها المستلهمة من حقبة الأربعينات من القرن الماضي، كما قالت. بلا شك أن المرأة التي عاشت الحرب العالمية الثانية كانت نصب عينيها عندما صممت هذه التشكيلة، مع فارق كبير أنها كانت أكثر ترفا وفخامة وانطلاقا من ملهمتها الأربعينية. إلى جانب التايورات المكونة من جاكيتات مفصلة وتنورات تغطي الركبة وأخرى ببنطلونات مستقيمة، وإلى جانب المعاطف المزينة بأحزمة ناعمة ورشيقة بألوان زاهية، كانت هناك فساتين مطبوعة بالورود ومنسابة لفتاة تعيش الحاضر وتتطلع إلى صيف منعش ومفعم بالشمس والدفء. ولأن المصممة، على ما يبدو، لم ترد أن تفوت عليها الموضة السائدة إلى حد الآن على منصات لندن، وهي الاحتفال بالقصير، ضمنت تشكيلتها فستانا يتيما بطول قصير «ميني» باللون الأخضر الليموني لم يكن وحده اللافت في العرض. فقد استعانت بإكسسوارات على شكل قلادات وأساور ضخمة وبألوان مشعة بتوقيع مصمم المجوهرات المعروف اليكسيس بيطار، الذي تعاون أيضا مع المصمم جايسون وو خلال أسبوع نيويورك الأخير، وتتوفر تصميماته على موقع «نيت أبورتيه دوت كوم»، مما لم يترك أدنى شك بأنها تعيش الحاضر، وأن الماضي لم يكن سوى لفتة خفيفة.