الظاهرة جان ميشال جار عزف على أوتار أشعة تخترق سماء بيروت

افتتاح أسواق الوسط التجاري بحدث فني على مستوى عالمي

جان ميشال جار أثناء العرض الذي قدمه وسط بيروت ليلة السبت الماضي
TT

أخيرا وصل جان ميشال جار، فنان العروض الموسيقية - الضوئية الضخمة، إلى العاصمة اللبنانية، بعد تأجيل وانتظار، وأحيا ليلة عامرة وسط المدينة احتفاء بالافتتاح الرسمي لـ«أسواق بيروت». كان يفترض أن يقدم جار حفله أواسط يوليو (تموز) الفائت، ثم قيل إنه أجل حضوره إلى أغسطس لأسباب تقنية، لكن الموعد المنتظر بقي معلقا حتى أول أمس.

دخل الفنان الظاهرة، رائد الموسيقى الإلكترونية المصحوبة بعروض الليزر والفيديو، وصاحب الحس الاستعراضي، إلى مكان الحفل وهو يجتاز الحشود التي حضرت للقائه، تلحق به بقعة ضوء كبيرة، وسط تصفيق كبير وصفير تشجيعي، ليعتلي المسرح الكبير الذي انتصب في إحدى ساحات السوق، ويحيي جمهوره بالعربية قائلا له «مساء الخير». عبر جار عن سعادته بأن تكون بيروت محطته الأخيرة في جولة طويلة قادته إلى عواصم عالمية عدة، خاصة أن بيروت معروفة بقدرتها على صنع الضجيج.. «فلنصنع الضجيج معا» قال جار لجمهوره قبل أن يبدأ حفله، مع فرقة مكونة من ثلاثة عازفين رافقوه على آلاتهم الإلكترونية.

عزف من قديم مقطوعاته وجديدها، بعضها بات شهيرا جدا، فيما كانت الشاشة التي تصنع خلفية المسرح تتبدل عليها الألوان والصور والأشكال الهندسية التي ترتسم عليها وكأنها تتراقص بحيوية باهرة، فيما كانت عروض الليزر الآتية أشعتها ورسوماتها من كل اتجاه تتبدل مع كل مقطوعة موسيقية، فتجعل لكل معزوفة شخصيتها وروحها وأجواءها الخاصة.

عزف في البدء «إنترو» ثم «أكسجين 2» وكرت السبحة. موسيقى مليئة بالضجيج والصفير والأزيز، والطرق المعدني، خلبت قلوب الناس، ليس في فرنسا فقط وإنما في أميركا وبريطانيا وسويسرا، وكل مكان حط فيه هذا الفنان، ومنذ أطلق ألبومه «أكسجين» عام 1976 وهو يضرب أرقاما قياسية سواء في بيع أغلى أسطوانة في العالم لتمويل دعم الفنانين الشباب، أو في جمع أكبر عدد من المتفرجين لعرض واحد، أو حتى في عدد مبيع الأسطوانات حيث سجل مبيعا وصل إلى 70 مليون نسخة، وحضر إحدى حفلاته مليون وثلائمائة شخص. واشتهر في فرنسا بتنظيم الحفلات العامة المجانية، في المناسبات الكبرى، التي اجتذبت ملايين المتفرجين، مما جعل له شهرة شعبية واسعة.

بقي هذا الستيني الذي يتمتع بشباب استثنائي يعزف على آلاته الإلكترونية المركبة الموزعة في أنحاء المسرح متنقلا بينها، من دون أن يتوقف عن القفز في الهواء، والتصفيق، وإعطاء التوجيهات لموسيقييه، قرابة ساعتين. حين عزف جار «مانيتيك فيلدز». وكان بمقدور الحضور أن يروا على خلفية المسرح بالأسود والأبيض بثا حيا عن قرب لحركة أيدي جار وعازفيه التي تتنقل على أجهزة معقدة مليئة بالأسلاك والأزرار، كأنما هي مصنع للأصوات التي ينسقونها ويولفونها. أكثر من معزوفة رافقتها صور حية لهذه الأجهزة التي باتت قادرة على تخليق أصوات بشرية ومعدنية، تختلط بالكلاسيكة لتنتج خليطا من مقطوعات مليئة بالضجيج، قد تحب إيقاعها المجنون، أو يصيبك بالصداع، لكن جان ميشال جار بشغفه البصري يعوضك عن الانسجام السمعي دائما بخطف البصر في اتجاهات مختلفة. مرة يجعل خطوط الليزر ترتسم على المسرح بأبعاد ثلاثية قادرة على رسم مشهد غرف متداخلة، ومرة أخرى يترك لهذه الخطوط أن تصبح إشعاعات ذات ألوان قزحية، تدور حول نفسها على طريقة الدراويش لتغزو السماء، ومرات تتحول إلى دوامات ملونة ضخمة تملأ الفضاء كأنها أعاصير سلمية ذات نكهة فنية، لا تكف عن الدوران.

مخيلة جان ميشال جار لا تكف عن الابتكار، فقد عزف على الأشعة بعد أن لبس قفازات، وبدا أن خيوط الليزر تخرج من نقطة أمامه لتمتد بخطوط خضراء مائلة باتجاه السماء فوق رؤوس الحاضرين. عزف جار على الخطوط كأنما هي أوتار لكل منها نغمته، التي تصنع موسيقاه الخاصة.

وبما أن هذا الموسيقي الذائع الصيت هو سفير لدى اليونيسكو للنوايا الحسنة، فقد خص البيئة بمقطوعة تحمل عنوان «ستاتيستكس أوداجيو»، تحولت خلالها الشاشة العملاقة التي هي خلفية المسرح إلى مجموعة عدادات، تبرز عدد سكان الأرض، عدد براميل النفط المستهلكة في العالم، وعدد الطائرات التي تتجول في سماء الكوكب خلال السنة، وعدد مستهلكي المخدرات. عدادات لا تني أعدادها تتصاعد على الشاشة كلما رفّ لك جفن.

الصين كان لها من العرض حصة، فقد كان جار أول أوروبي يشارك في حفلات ضخمة في الصين بعد رحيل ماو، وعزف يومها في بكين وشنغهاي، وحصد إعجابا كبيرا، وأقام صلة مع هذا البلد ولم تنته قصته معه إلى اليوم. وإثر تلك الزيارة كتب «ذكريات من الصين» التي سمعها الحاضرون في بيروت، مصحوبة برسوم لوجوه سوريالية بخطوط صينية، واللون الأحمر القاني يغلب على كل ما عداه.

من الأهرامات التي عزف ذات يوم جار بالقرب منها استوحى بعضا من ألعابه الليزرية، ومن الرسوم المتحركة صنع جانبا من عرضه البديع، وبدا أنه خبأ أشهر مقطوعاته وأكثرها فرحا لنهاية الحفل، حيث أصبح الواقفون أكثر من الذين التزموا مقاعدهم، خاتما بمقطوعته «نهاية القرن» وبمشاهد لعالم خرب يستنجد طالبا الخلاص.

الألعاب النارية ملأت سماء بيروت، تاركة لهذا الفنان الفرنسي أن يلتقط أنفاسه ويعود بسبب إلحاح جمهوره بمقطوعات وداعية، طالبا منهم أن يضيئوا أجهزتهم الجوالة ويلوحوا له بها، عندئذ صارت التليفونات شموعا تلوح في الهواء، وصار المشهد البصري ليس على المسرح هذه المرة وإنما حيث يجلس نحو 3000 شخص يودعونه بالأضواء الإلكترونية التي بحوزتهم.

تراوح سعر البطاقة بين 54 و200 دولار، مما يفسر العدد القليل للحاضرين، لكن المقاهي المحيطة بالمكان التي كان يصل إليها لا بل وإلى ما هو أبعد منها بكثير صوت الموسيقى، اكتظت بالراغبين في الاستماع إلى إبداعات جار. وهو ما يفسر الازدحام الشديد الذي شهدته أسواق بيروت يوم السبت، حيث نظمت عروضا في الشوارع، وجابت فرق موسيقية صغيرة الأروقة احتفاء بعودة أسواق وسط بيروت إلى الحياة بحلة عصرية حديثة بعد أن دمرتها الحرب عن بكرة أبيها. وهذه ليست نهاية المطاف، إذ يستكمل بناء الأسواق لتشهد في المرحلة الثانية افتتاح ما يقارب 14 صالة عرض سينمائية، ومراكز ترفيهية كثيرة.

وبالأمس التقى جان ميشال جار النائبة بهية الحريري، باعتبارها مثله سفيرة لدى اليونيسكو للنوايا الحسنة، بحضور ممثلة شركة «سوليدير» رندة أرمنازي، وهي الجهة المنظمة لحفل جار بالتعاون مع مؤسسة «وي غروب».