«عمارة كاديلاك».. تروي تاريخ الأرستقراطية في مصر

سلالمها عرفت أقدام أم كلثوم ورشدي أباظة وأسمهان والملكة نازلي

روائح الأرستقراطية المصرية تفوح من عمارة كاديلاك المهجورة بشارع رمسيس بالقاهرة (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

تزخر القاهرة بالكثير من المعالم التاريخية، أغلبها يحظى بالاحترام والرعاية باعتباره أثرا وثروة قومية، وبعضها يصارع الزمن والتجاهل والنسيان في محاولة للبقاء وتذكير الناس بأنه كان هنا ذات يوم، وكان له تاريخ وعشاق، يتهافتون على صداقته ومحبته واقتنائه. أحد شواهد هذا العشق «عمارة كاديلاك»، تلك البناية الصغيرة التي لا تزال صامدة في شارع رمسيس الشهير بالعاصمة المصرية، وتأبى أن تمتد إليها معاول الهدم التي طالت الكثير من بنايات الشارع العريق. فلا تزال نوافذها وحجراتها وشرفاتها وسلالمها المهجورة تتناثر في غبارها روائح من زمن الأرستقراطية المصرية، وتاريخ الملوك والمشاهير من الفنانين ورجال الساسة ووجهاء المجتمع.

ترجع قصة البناية اليتيمة إلى عصر محمد علي، كما يروي بعض سكان المنطقة، لكن شهرتها بدأت مع مطالع عام 1954 حين دخلت السيارة كاديلاك إلى الحياة في مصر، خاصة بعد إهدائها الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور، المعروف بعشقه للسيارات، إلى الرئيس جمال عبد الناصر. وكان يبلغ سعرها آنذاك 4 آلاف جنيه مصري. في ذلك الوقت أصبح للسيارة كاديلاك عشاقها، وصار امتلاكها علامة على الأرستقراطية والثراء، والذوق الرفيع. ومنها استمدت هذه البناية شهرتها حين أصبحت المنفذ الوحيد للبيع والترويج للسيارة ذات المظهر الأنيق في مصر.

البناية المهجورة بطرازها المعماري الكلاسيكي مكونة من طابقين، خلفها كراج تبلغ مساحته نحو 800 متر مربع، كانت مملوكة لمحام يدعى إيميل ديل ماركار، وهو تركي الأصل، جاءت أسرته إلى مصر أيام حكم محمد علي، ثم حصلوا على الجنسية المصرية بعد ذلك وقام المحامي بشراء ثلاث بنايات في شارع رمسيس تحمل أرقام: (247 - 249 - 251) واختص منها العمارة رقم 247 التي تتكون من 3 أدوار لتصبح مقر إقامة عائلة إيميل ديل ماركار.

يستكمل سكان المنطقة عن أسرة المحامي ديل ماركار: مع الوقت توسع نشاط هذه الأسرة في عالم بيع وشراء السيارات، وهاجروا إلى كندا لامتلاكهم شركات للسيارات هناك، وفي هذه الفترة أقبلوا على بيع العمارات الثلاث وكانت العمارة رقم (249) من نصيب توكيل سيارات كاديلاك في مصر التي كانت تعتبر الأشهر في تلك الفترة، حيث كان الملوك والأمراء وكبار الفنانين يأتون لزيارة هذا المكان، منهم كوكب الشرق أم كلثوم، والفنان رشدي أباظة، وأسمهان والملكة ناريمان والملكة نازلي والدة الملك فاروق. ويروي السكان أنه عندما كانت تمر الملكة نازلي في شارع رمسيس بسيارتها الكاديلاك كان يتم فرشه بالسجاد الأحمر تقديرا لها، أيضا الملك فاروق كان يمتلك سيارة كاديلاك وكان لونها أسود في أحمر، وكان محظورا أن يمتلك أي شخص آخر مهما بلغت أهميته سيارة لها نفس اللونين، وبالنسبة للعمارتين الأخريين فقد تم شراؤهما وهدمهما وإعادة بنائهما مرة أخرى من قبل بعض الأشخاص.

وعلى الرغم من الشهرة الواسعة لهذه العمارة التي استمدتها من شهرة سيارات كاديلاك، فإنها منذ نهاية الخمسينات تحولت إلى مبنى مهجور تماما في شارع رمسيس، ولم يتم هدمها وبناؤها مثلما حدث لنظيرتيها رقمي 247 و251، بل المدهش في الأمر أنها لا تزال تحمل لافتة «كاديلاك موتورز»، ولم يترك الزمن آثاره عليها إلا في تراكم الأتربة والغبار الذي أضاف على مظهرها غموضا شديدا. وإلى الآن لا أحد يعلم تحديدا لماذا تركت على حالها هكذا وهل ثمة إمكانية لهدمها وبنائها مرة أخرى.

المارة والقاطنون بالمنطقة يربطون لغز العمارة وما آلت إليه بعدة أسباب، أهمها الإجراءات الحكومية التي اتخذتها حكومة الثورة ضد السيارات الأميركية التي جعلت من استمرار «كاديلاك» أمرا مستحيلا مع وضع خريطة سوق السيارات في مصر التي تغيرت مع بداية الخمسينات من القرن الماضي، وتغيرت معها اتجاهات شراء المصريين للسيارات، فبعد أن كان الإقبال كبيرا على شراء السيارات الأميركية، اتجه المصريون إلى السيارة مرسيدس مع بداية الخمسينات لتحتل مكانة سيارات كاديلاك والتي تصدرت مبيعات السيارات في مصر في الفترة من 1920 حتى 1950. زاد من خسائر كاديلاك دخول السيارة «فولكس فاجن بيتل» لمصر التي حظيت باهتمام كبير من المصريين في تلك الفترة، لتصبح أشهر سيارة في تاريخ مصر بعد النجاح الذي حققته، كما اتجه المصريون خلال هذه الفترة أيضا إلى سيارات الكتلة الشرقية التي كانت تتميز برخص الثمن، وكانت هذه ضربة أخرى لكاديلاك، وأكبر دليل على تراجع مبيعاتها في مصر. وبحسب الإحصائيات عام 1952 كان عدد السيارات الكاديلاك في مصر 580 سيارة على الرغم من أن عدد السيارات بها كان قد وصل إلى 54933 سيارة، وبالتالي لم يكن هناك تناسب في المبيعات. كما دفع الارتفاع في حركة بيع السيارات بمصر جنرال موتورز الشرق الأدنى، وكيل سيارات كاديلاك، إلى الانسحاب عام 1958 من السوق المصرية بسبب ضعف المبيعات. وعلى الرغم من عودة سيارات كاديلاك إلى مصر مرة أخرى في الوقت الحالي فإن أحدا لم يلتفت إلى مكانها الأساسي أو يتخذه مقرا لها كما كان في الماضي.

هوامش هذه القصة يكملها المخترع الفرنسي الذي عاش في القرن السابع عشر أنطوان دي لا مودي كاديلاك، مصمم تلك السيارة التي سميت باسمه. ومنذ عام 1909 أصبحت شركة «كاديلاك للسيارات» ملك شركة «جنرال موتورز» وتحولت في أقل من 6 سنوات إلى أشهر السيارات الفخمة في أميركا حيث تباع في أكثر من 50 دولة. كما تعد «كاديلاك» ثاني أقدم شركات السيارات الأميركية بعد «بويك» ومن بين أقدم شركات صناعة السيارات في العالم، كما أنها كانت من أولى السيارات التي استخدمت التكييف عام 1964، علاوة على ابتكارها محركات، كما اقتصر اقتناء سيارات كاديلاك منذ ظهورها على المشاهير والزعماء والأغنياء، وفي مقدمتهم مغني الروك إلفيس بروسلي، حيث يعد من أشهر المغنين الذين ارتبط ظهورهم بسيارات كاديلاك، خاصة السيارة كاديلاك وردية اللون التي أهداها إلفيس لأمه فصارت أشهر سيارة في العالم.