سورية: ازدهار أعمال حرفيي المصوغات الفضية ومرمميها

في ظل ارتفاع أسعار الذهب محليا وعالميا

حرفي في مشغله يصوغ فضة («الشرق الأوسط»)
TT

في ظل الارتفاع الكبير في أسعار الذهب في العالم عموما، وفي سورية بصورة خاصة، ونتيجة لعزوف كثيرين عن شراء المصوغات الذهبية، انتعشت في سورية خلال الأشهر الأخيرة سوق المصوغات الفضية.

في الواقع انتعشت، بالذات في دمشق، حرف تصميم مصوغات الفضة وتصنيعها وصيانتها وترميمها من قبل حرفيين انتشروا، بشكل خاص، في أسواق «الصاغة القديمة» و«مدحت باشا» و«الحريقة»، وفي سوق «المهن اليدوية» في مبنى التكية السليمانية.

ومع أن التعامل مع الفضة وتحويلها إلى مصوغات يعد مهنة دمشقية قديمة، فإن حرفة صياغة الفضة تراجعت في المدينة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، تحت وطأة منافسة الذهب. وبالتالي، انخفض عدد العاملين في صياغة الفضة كثيرا وتناقص عدد الورش اليدوية التي تحولت إلى صياغة الذهب. أما من تبقى من حرفيي الفضة في الحلبة، فقد تخصصوا في صناعة مصوغات فضية خاصة بالرجال، أو تعاون بعضهم مع حرفيي النحاس لإنتاج أدوات نحاسية يدوية محلاة بخيوط الفضة.

سيمون شحّود - أو «أبو جورج» (55 سنة) - صاحب ورشة لتصنيع وصياغة الفضة وإصلاح المجوهرات الفضية تتوضع في طابق علوي صغير وقديم بـ«سوق الصاغة» التاريخية قرب الجامع الأموي وسوق الحميدية، في لقاء مع «الشرق الأوسط» روى حكاية ممارسته هذه الحرفة منذ سنوات بعيدة، وكيف أنه لم يتخل عنها رغم انخفاض أرباحها في وجه المنافسة غير المتكافئة مع الذهب لها قبل سنوات، فقال: «أعمل في هذه الحرفة منذ 35 سنة، وكنت قد تعلمتها على أيدي حرفيين دمشقيين قدامى وورثتها لابني، الذي يعمل معي، لكي يحافظ عليها من بعدي. فهي حرفة وهواية رغم أرباحها القليلة». وأضاف: «تتشابه المصوغات الفضية مع الذهبية من حيث مراحل العمل والأشكال المنتجة منهما.. وتختلف فقط في طبيعة المعدن. وتتميز الفضة بأنها معدن لين يسهل التعامل معه، وبالتالي، ننتج منها ما نريد من نماذج وأشكال حسب رغبات الزبائن.. سواء من الموضة الدارجة، أو تلك المستوحاة من التراث، ويجري العمل عادة عبر الاستعانة بمجموعة من الأدوات، هي المكابس وآلات السحب والماكينات الخاصة بطرق معدن الفضة التي أغنتنا عن عملية الطرق اليدوي المتعبة والمجهدة».

وشرح «أبو جورج» مراحل العمل، والرحلة التي تقطعها المصوغات الفضية قبل أن تصل إلى الزبائن جاهزة، فقال: «في البداية يؤتى بسبائك الفضة الخام أو الكسر.. التي هي من النماذج المصنعة سابقا والتي يبيعها مقتنوها.. فنعمل على تنظيفها وتصفيحها وتحويلها من جديد إلى فضة خام على شكل سبائك من خلال وضعها على النار وصهرها، وبعد ذلك نحولها إلى صفائح عريضة، في حال كان المطلوب تصنيع فضيات كبيرة وعريضة مثل الكؤوس والصواني. أما إذا كانت الغاية تحويلها إلى أساور وخواتم ومحابس فنعمل هنا على تحويل الفضة الخام إلى أسلاك وشرائط بحيث يتحكم قطر السلك في سماكة القطعة».

وعن القطع الأكثر طلبا من المصوغات الفضية، أوضح سيمون شحود: «يوجد إقبال كبير من النساء على تصنيع سلاسل مع القطع المعلقة في الصدر.. ويطلب منا غالبا حفر أسماء معينة عليها لكي تزين بها صدورهن.. وهي عموما أسماء الأزواج والأحبة. ثم هناك إقبال على الخواتم الرجالية والنسائية. ومن النماذج المطلوبة أيضا لوازم السبحات الفضية التي نصنعها لمقتني السبحات الثمينة ذات الأحجار الكريمة، وملحقاتها الفضية هي عادة (الشرابة) و(المئذنة) و(الشاهدتان).. ومنها ما يصنع بشكل صفائح فضية سادة غير مزركشة وهناك النماذج المنقوشة والمزخرفة».

ويضحك «أبو جورج» عندما يتحدث عن منتجاته التي تعرض في معارض متخصصة قائلا: «لم أدع إلى معرض داخل سورية أو خارجها.. لكن منتجاتي تعرض في هذه المعارض من خلال التجار وأصحاب الشركات والمحلات المتخصصة ببيع الفضيات والذين يشترون منتجاتنا من ورشنا اليدوية ويشاركون بها في هذه المعارض». ويتأوه «أبو جورج» هنا شاكيا: «نبقى نحن جنودا مجهولين في هذه المهنة اليدوية!».

من ناحية أخرى، مثلما يصمم «أبو جورج» ويصنع المنتجات الفضية.. فإنه يعمل أيضا في مجال الترميم والصيانة، ويلبي طلبات من يقصدونه حاملين فضيات قديمة تحتاج إلى الصيانة والترميم. ويعتبر سيمون شحود هذا الجانب «فنا وإبداعا يظهر إمكانات الحرفي»، شارحا أن «ترميم القطعة الفضية يتطلب معرفة كيف صنعت وصممت لكي يتمكن المرمم من التعامل معها». ويورد على ذلك مثال سوار فضي مهترئ ومقطوع من منتصفه، فلكي يعيده إلى وضعه الأساسي كان عليه أن يعرف كيف صنع السوار من سحب أول خيط فضة فيه وحتى الخيط الأخير، ومن ثم عليه أن يقصه بشكل فني ويدخل النار بين الأسلاك الرفيعة ثم لحمها في النهاية، ولذلك فإنه حتى القطعة القديمة الواحدة تحتاج إلى خبرة ودراية من الحرفي الصنايعي».

ولكن ماذا عن مستقبل هذه الحرفة الفنية؟

«أبو جورج» ينظر إلى مستقبل صياغة الفضة بكثير من التفاؤل، ويبرر تفاؤله بالقول: «إنها مهنة جميلة وتتعامل مع معدن أنيق.. وبسبب إقبال كثرة من الشباب السوري على العمل بها، إذ يربو عددهم اليوم على ألفي شخص، فإنني متفائل بمستقبل الحرفة.. ولا يقتصر تفاؤلي على ازدياد عدد العاملين في صياغة الفضة بل يشمل أيضا زيادة الطلب عليها، الذي نشهده اليوم في دمشق وعموم المدن السورية، وأيضا من خارج سورية، وأنا مثلا، لدي زبائن في العراق والسويد وبريطانيا».

وحقا، يبدو أن «أبو جورج» محق في تفاؤله بمستقبل صياغة الفضة وترميم الحلي الفضية، إذ يرى المتجول في أسواق دمشق كثيرين من الشبان الذين أقبلوا على العمل بهذه المهنة، أحدهم الشاب الدمشقي هايك كبرجيان، الذي التقيناه في ورشته بسوق التكية السليمانية. وتحدث هايك عن حرفته التي يعشقها ويعمل بها منذ سنوات قليلة قائلا: «ورثت هذه المهنة عن والدي وأجدادي، وأنا أعمل يدويا وأصمم نماذج فضية بقياسات مختلفة للزينة كحلي نسائية ورجالية أو للعرض، كلها خاصة بي، ولا أحد يستطيع إنتاج مثيل لها.. ولكن قد يقلدها البعض عندما يرونها مع أحد الزبائن، ومنها مزهريات فضية وصمديات وغيرها».

ويقسم هايك منتجاته إلى نوعين: الأول الذي يستعين في إنتاجه بالآلة، والثاني الذي لا يمكن إدخال الآلة على عملية تصنيعه إطلاقا.. مما يعني وجوب أن يكون العمل في جميع المراحل يدويا. ومن النوع الثاني المصوغات والمنتجات التي تدعى «كسر الجفت»، وهي عبارة عن شرائط مجدولة ومرصوصة وملحومة بشكل متقن، وهذه لا تأخذ شكلها الجميل إلا بالعمل المهاري اليدوي، وتستخدم للعرض أو لارتدائها من قبل النساء. ويكشف هايك لـ«الشرق الأوسط» عن أن البعض يظن أن طريقة «كسر الجفت» طريقة سورية قديمة، بينما هي، كطريقة يدوية في التعامل مع الفضة تعتمد على نموذج للي السبيكة الفضية بعد صهرها وقولبتها من قبل الحرفي بالطريقة التي يرغبها، جاءتنا في الواقع من البرتغال. ونحن في سورية تعلمناها من الحرفيين البرتغاليين القدامى. إلا أن هذه الطريقة انقرضت في البرتغال، وجميع من عمل بها من القدماء رحلوا إلى أميركا، ولم يتعامل الجيل الجديد من الحرفيين البرتغاليين بها، وأقدمنا نحن الحرفيين السوريين على إنهاضها من جديد.