«اسمها سابينا».. شهادة سينمائية وثائقية حميمة حول مرض «التوحد»

النجمة السينمائية الفرنسية ساندرين بونير وجهت عبر حالة شقيقتها نداء تحفيزيا إلى المجتمع

أطفال يساهمون في حملة توعية بمرض «التوحد» (أ.ب)
TT

عندما كانت الممثلة الفرنسية العالمية ساندرين بونير ترتقي سلم المجد كنجمة عالمية، كانت أختها سابينا تعاني من اضطرابات إعاقة التوحّد - أو «الأوتيزم» - في مستشفى للأمراض العصبية والعقلية. وعام 2007 أخرجت ساندرين بونير فيلمها الوثائقي بعنوان «اسمها سابينا»، الذي اعتبرته شهادة شخصية تروي بالجملة المصورة قصة حياة أختها سابينا، مسلطة فيها الضوء على حجم المعاناة التي يعيشها الإنسان المعاق، وخاصة «المتوحد» في المستشفيات والمؤسسات الحكومية. بل الجانب الأهم هو كيف يساهم العاملون في هذه المستشفيات والمؤسسات، عن وعي أو بغير وعي في تدمير نفسية المعاق، بضخه بجرعات عالية من الأدوية والعقاقير المخدرة.

والواقع أن هذا الفيلم - الشهادة، لا يدين النظام الصحي الفرنسي فحسب، بل يطال نقده النظام الاجتماعي السائد. وهو يتسم ليس بالغضب وحده، بل يلامس الحزن المدمر والدموع المخنوقة أيضا. وبهدوء وصبر ولجت بونير عالم إعاقة «التوحد» وكأنها تقول إن حطام إنسان معاق لا يفقده حب الآخرين. ولاحقا، عرض الفيلم في مهرجان كان السينمائي الدولي وحصل على جائزة فيه، ونال أيضا جائزة الأفلام الناطقة بالغة الفرنسية و«جائزة الصحافة»، وبرز كأحد أفضل الأفلام الوثائقية، عرضته قناة التلفزيون الفرنسي الثالثة، ليوقظ الملايين ممن شاهدوه من غفلتهم.

هذا، وكانت بونير قد قررت إنتاج الفيلم، كفيلم وثائقي شخصي ومباشر عن شقيقتها، بعد مشاورات مع عائلتها. وبالفعل باشرت العمل فيه في منتصف عام 2006 وانتهت منه في مطلع عام 2007. أما الجديد فيه فهو أن الممثلة المشهورة لم تكن حاضرة في مشاهده- بل كانت خلف الكاميرا، توجهها نحو شقيقتها وما يحيط بها. وكانت تنجح في انتزاع الحديث أو جر أختها إليه، بكل الوسائل والطرق وعبر طرح العديد من الأسئلة على أختها. كما اقتنصت لحظات فعلها وسلوكها وكانت أصدق اللقطات التي واجه فيها المشاهد رعب القسوة وتردي الأوضاع الإنسانية والخدمية وما يعانيه المعاق في مستشفيات العقلية وما آلت إليه حالة سابينا وتحولاتها النفسية والجسدية.

ولقد دفع التذكر والرؤية الزمنية للماضي ساندرين بونير إلى أن تطيل التجوال والتنقل بين أحداث ووقائع خلال سنوات مضت ووقائع وأحداث اليوم. ومع أنها لم تستطع أن تدرك أو تستوعب ما حدث لشقيقتها، لم ترغب المخرجة أن تقول إن ما حدث مع سابينا جريمة ضد المعاق.

وتضطرب الذكريات عن طفولة فتاة وشبابها من فيديو قديم خاص، ويسرد الفيلم الوثائقي في المقطع لأول «القُبل» جزءا من سيرة حياتها. وتطل من الماضي فتاة شعرها أسود طويل تتفجر حيوية وتنظر بتردد وارتباك إلى الكاميرا. ابتسامتها وقهقهاتها ولمسة الفرح على وجهها أليفة في محيطها. حيوية ترقص ونظرتها فاحصة يقظة تبرق لكل شيء. تحدق في الكاميرا طويلا.. مبهورة.

إنها موهوبة أيضا، تعلمت اللغة الإنجليزية واهتمت بالأدب الإنجليزي، فقرأت الكتب بشغف. وأولعت بالجغرافيا. لكنها منذ الطفولة كانت تحتاج إلى كثير من الاهتمام، فحال ما تُهمل وتشعر بالوحدة، كانت تتحول إلى طفل عدائي صعب المراس تضرب أمها وتجرح نفسها.

أما المقطع الثاني من الفيديو فيعرض للفتاة نفسها وقد أصبحت امرأة في عمر يناهز 38 سنة، أجبرت على ارتداء قميص المجانين، تجلس منهكة وقد تكوّر جسدها، شعرها قصير أشعث، وعيونها خالية من التعبير وكأنها تحدق في فراغ، بالكاد توقف جفنيها من السقوط.

صارت تتحاشى التقاء النظرات، زاد وزنها 30 كلغم، وأصبحت ذاكرتها قصيرة جدا ووقتية، وفقدت القدرة على ارتداء ملابسها إلا بالمساعدة. تتحرك ببطء شديد كأن أحدا ما يسحبها ويجبرها على المسير.لا ترغب في شيء سوى الاسترخاء.

الصراع الدائم بين ذكريات الماضي وواقع الحاضر شغل أحداث هذه الوثيقة السينمائية.

سابينا «المعتوهة»، كما أطلق عليها في المدرسة الابتدائية، كانت تتعلم في مدرسة خاصة وحين بلغت الثانية عشرة انتقلت إلى المدرسة التي تعلم فيها إخوتها. لكن سخرية الطلاب منها حددت حركتها ودفعتها إلى السلوك العدائي مما اضطر عائلتها إلى إخراجها من المدرسة. ومن ثم بقيت في البيت تقوم بالإعمال اليدوية وتتعلم الموسيقى.. وفيها كانت مبدعة وخلاقة، تعلمت العزف على البيانو وعشقت باخ وشوبرت، وحققت حلمها الكبير بزيارة الولايات المتحدة مع شقيقتها الممثلة الشهيرة.

وبعدما نضج إخوتها وكبروا واستقروا في بيوتهم الخاصة، وتوفي الأخ الأكبر، بقيت وحيدة مع أمها وانتقلت إلى الأرياف. وهنا فقدت ثقتها بمحيطها بعد تغير مألوفها اليومي، وتزايد سلوكها العدائي ضد الآخرين بجانب الإيذاء الذاتي. فجأة أخذت تعتريها فورات من الهيجان والسلوك العنيف، ولم تنجح الفحوص الطبية في تشخيص إعاقة سابينا. كذلك أخفقت العلاجات في تحسين حالتها الصحية. وعندها استأجرت أختها ساندرين بيتا خاصا لها حيث عمل بعض المربّين على رعايتها، غير أنهم سرعان ما تركوا العمل ولم يستطع بعدهم أحد مساعدتها.

وارتبكت العائلة، وبعد معاناة اضطرت إلى إدخال سابينا إلى مستشفى للأمراض العصبية والعقلية الرسمية التابعة للدولة الفرنسية. وهناك طالت إقامتها لأكثر من خمس سنوات فقدت خلالها كل ما تعلمته، وضعفت قدرات وعيها وإدراكها إلى الحدود الدنيا. أما كفاءتها الحركية فتلاشى الكثير منها.

عندها لاحظت عائلتها أن بقاءها في المستشفى ليس في صالحها، فبدأت البحث عن مكان آخر لها، لكن غالبية المؤسسات رفضت قبولها. ومديرة إحدى مؤسسات إعادة تأهيل المعاقين لفتح مركز لسكن المعاقين، إلا أن شح التمويل المالي حال دون ذلك. ولكن بدعم من ساندرين أمكن افتتاح مسكن لمجموعة من المعاقين في قرية «جارنيه» يدعى «مكان الحياة»، أربعة منهم متوحدون، بالإضافة إلى المربّين.

وبعد سنة نقلت سابينا إلى السكن الجديد، وبوشر بخفض جرعات الأدوية التي كانت تتناولها إلى النصف. وأخذت حالتها تتحسن، غير أن سنوات إقامتها في مستشفى الأمراض العقلية الحكومي تركت آثارها السيئة الواضحة على حياة سابينا في سلوكها الاجتماعي والنفسي، نتيجة لعلاجها بجرعات عالية من الأدوية المخدرة والحقن المهدئة لكسر فورات غضبها.

ففي فترة طفولة سابينا لم تكن طرق علاج التوحّد واضحة المعالم أو تحظى بالاهتمام الضروري. ثم إنه لم تكن توجد مؤسسات مختصصة بهذه الأنواع من الإعاقة.

لقد شاهد هذا الفيلم الوثائقي أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون من الفرنسيين، وأثنت الصحف الفرنسية على النجمة ساندرين بونير، مشيدة بجرأتها في طرح هذه المشكلة الاجتماعية، مشكلة شقيقتها المعاقة وعائلتها أمام الرأي العام، ومعجبة بحبها الجارف لشقيقتها وعلاقتها الوثيقة مع عائلتها.

هنا كان طرح نقاش اجتماعي جدي لفهم مشكلات المعاقين، وما يواجهونه من صعوبات وتجاهل من صناع القرار، تحفيزا للمجتمع لكي يلتفت إلى شريحة واسعة من المجتمع الفرنسي تعاني من الإعاقة وضعف القدرات وتدني إمكاناتها للبقاء على الحياة من دون مد يد المساعدة لها.