ليلة المتاحف في فيينا.. كيف تزور 115 متحفا في ساعات؟

احتفالية سنوية تشارك فيها العواصم الأوروبية

طفل ينظر إلى مجسمات لأسماك القرش في متحف التاريخ الطبيعي بفيينا (رويترز)
TT

ليلة ليست ككل الليالي، تلك هي «ليلة المتاحف».. أمسية من الفن تحتفي فيها أكثر من 120 مدينة أوروبية، مثل برلين وبودابست وباريس وأمستردام، بمتاحفها وتخصص لها برنامجا خاصا يبدأ السادسة مساء لينتهي في الواحدة صباحا، ولا يقتصر الأمر على العواصم، فهناك مدن أصغر تسارع بدورها لجذب مواطنيها لزيارة المتاحف بسعر تذكرة دخول واحدة فقط لا تزيد قيمتها على 13 يورو.

يوم السبت الماضي احتفلت النمسا للعام الـ11 بليلة المتاحف؛ حيث شرعت 860 متحفا أبوابها لاستقبال الجمهور بعد مواعيد الدوام العادية. ولمزيد من النظام بدأ طرح التذاكر قبل شهر بالتمام مع توزيع كتيبات صغيرة توضح عنوان كل متحف وأشهر مقتنياته. ولمزيد من الراحة تم تحريك 50 حافلة في العاصمة فيينا ظلت تعمل كشبكة خاصة تنقل الزوار بين المتاحف.

«الشرق الأوسط» حرصت على دخول هذه التجربة وكان التحدي الأكبر هو عامل الزمن وعدد المتاحف التي يمكن زيارتها في تلك المدة المحددة من دون زخم أو عجالة.

الخيار كان كبيرا ومتنوعا، إلا أن عامل الوقت حسم الأمر بزيارة بعض المتاحف القائمة حول قلب فيينا القديم، عدا متحف ليشتنتاين الذي يقع في المنطقة التاسعة.

البداية كانت مع متحف الفنون التاريخية، وفي بوابته تم قطع جزء من التذكرة وبعدها كان المشرفون يحرصون فقط على رؤيتها، وهكذا ظلت تلك الوريقة هي جواز المرور لكل المتاحف بعده.

يقع هذا المتحف الضخم والفخم، بكل معنى الكلمتين، مواجها لمتحف التاريخ الطبيعي، وفيما بينهما يمتد ميدان منسق شديد الخضرة صيفا وشتاء يعلو منتصفه تمثال ضخم لأشهر أباطرة الهابسبرغ، الإمبراطورة ماريا تريزا، محاطة بعدد من قادتها.

تتمثل فخامة هذا المتحف في روعته كبنيان يعود تاريخ إنشائه إلى الفترة بين 1872 و1891؛ حيث قام الإمبراطور فرانس جوزيف بافتتاحه، ويعتبر واحدا من أجمل المتاحف عالميا، ولا يجد كثير من زواره حرجا في القول إنهم استمتعوا به كمبنى أيما استمتاع من دون أن يقلل هذا من قيمة معروضاته التي تعكس فترات وحقبا تاريخية منذ عهد الفراعنة إلى القرن الـ18.

حقيقة، فإن المبنى قمة في الإبداع، بدءا من مدخله وحتى أرفع بقعة في سقفه الذي بني على شكل قبة بارتفاع 60 مترا تبدو وكأنها قبتان، واحدة كبرى تضم في داخلها أخرى صغرى تضيئها منارات.

ومع كل خطوة للداخل أو لجانب من الجوانب، فإن الزائر يستمتع بأنواع الرخام والأعمدة والجدران، دع عنك مظهر الثراء الذي تضفيه التماثيل الضخمة الموضوعة على درجات السلالم بصورة تجعل المرء لا يملك إلا أن يقف مرارا ليتمعن ويدقق النظر من أكثر من زاوية وأكثر من منحنى للمنظر العام للمبنى، مقدرا لكل هذا الجمال قبل أن يبدأ في الدخول للقاعات والاستمتاع بالمعروضات.

يضم متحف الفنون التاريخية عددا كبيرا من المقتنيات الفنية الخاصة لعدد من أباطرة إمبراطورية الهابسبرغ، على رأسهم الإمبراطور رودلف 1576 – 1612، ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، أعمدة وتماثيل فرعونية تملأ جناحا كاملا. وكذلك مقتنيات تعود للحضارة الأثينية الإغريقية القديمة. هذا بجانب مئات اللوحات الفنية الخالدة التي تعكس مختلف أنشطة الحياة اليومية والدينية ولوحات للطبيعة مع الإنسان، وأشهرها لوحة «الصيف» التي رسمها مبدعا في تشكيلها غوسبي أرسيمبولد، مستخدما مختلف أنواع الفاكهة لتشكيل وجه إنسان وهناك لوحة «بلو مادونا» لألبرخت دورر بجانب الكثير من لوحات رامبراندت.

وعلى الرغم من شهرة معظم معروضات متحف الفنون التاريخية، فقد فاقها شهرة في السنوات الأخيرة تمثال السوليرا، أو سرادق الملح، الذي صنعه النحات الإيطالي بنيتو سيلليني من خشب خاص تم طلاؤه بماء الذهب.

يجسم السوليرا رجلا على هيئة إله البحر، يجلس فوق قبو، مقابلا لامرأة تمثل إلهة الأرض وبينهما تظهر رؤوس حيوانية، بينما تزين جانب التمثال شوكة كبيرة.

كان السوليرا قد سرق صبيحة 11 مايو (أيار) 2003 من موقعه المميز بالطابق الأول بمتحف الفنون التاريخية في سرقة تعتبر الأشد جرأة من نوعها في التاريخ الحديث؛ وذلك لشهرة التمثال الذي وصف بأنه بمثابة «موناليزا المنحوتات». كانت وزيرة الداخلية النمساوية قد أكدت لحظتها استحالة أن يتمكن السارق من بيع السوليرا أو حتى إذابته، فيما أعلنت شركة التأمين عن مكافأة قدرها 70 ألف يورو لمن يدلي بمعلومات عن مكانه.

في ساعة مبكرة من أمسية 21 يونيو 2006 زف للنمساويين الخبر السعيد باستعادة الشرطة للسوليرا بعد مطاردة للسارق الذي حاول الاتصال بشركة التأمين ليُكتشف أنه فني أجهزة إنذار تمكن من الدخول للمبنى عبر سقالة تركها عمال عالقة بالمبنى ومن ثم عطل أجهزة الإنذار حول التمثال، كما اتضح أنه قد حفظ التمثال في «كرتونة» دفنها في غابة على بعد 90 كيلومترا من العاصمة فيينا.

بعد زيارة متحف الفنون التاريخية قصدنا متحف التاريخ الطبيعي، لكن، بسبب شدة الازدحام، فقد اقتصرت الزيارة على الطابق الأول الذي خصص لنماذج كثيرة من الثروات البحرية من حجارة نادرة وأصداف وكورال ولم يتسن الصعود لطوابق أعلى، على الرغم من أن هذا المتحف يضم مجسمات لحيوانات انقرضت، ويبدو أنه، ولهذا السبب، جاء ثانيا في قائمة أكثر المتاحف زوارا، بينما جاء متحف الفنون التاريخية ثالثا.

هذا فيما حظي متحف الألبرتينا بالصدارة، ويعود الفضل في ذلك لجاذبية عدد ضخم من لوحات ورسوم الفنان العالمي بيكاسو، والتي صادف عرضها هذه الأيام. وفي حديث للناطقة الرسمية باسم الألبرتينا، أشارت إلى أنهم، لعدد من السنوات، كانوا قد قاطعوا الاشتراك في هذه الليلة، لكن بعد أن تأكد لهم نجاحها عاما بعد عام قرروا المشاركة مقتنعين أن من يزورهم في الليلة الطويلة لن يتوافر له الوقت الكافي للاستمتاع بلوحاتهم، وعليه فإنه لا بد أن يعود لزيارة أوسع.

يضم الألبرتينا، الذي يقع على بعد خطوات من مبنى الأوبرا بفيينا، نحو 65 ألف لوحة، بالإضافة إلى آلاف المطبوعات، ويقال إنه يمتلك أهم غرف المطبوعات في العالم.

بدوره، كان معرض لوحات الفنانة المكسيكية الأشهر، فريدة كالو قطب، جاذبا لصفوف طويلة جدا من الزوار الذين اصطفوا في صبر وشغف لإلقاء نظرة على لوحات هذه الفنانة، التي تعتبرها بلادها ثروة وطنية. يستمر العرض حتى ديسمبر (كانون الأول) بتنظيم من بنك النمسا.

هذا وقد حرصت بعض الشابات المعجبات بفريدا كالو على الحضور بملابس تشبه ما كانت ترتديه، بل عقصن شعورهن وزينّها بكمية من الورود في تسريحة تشبهها تماما كما جسدتها الممثلة سلمى حايك، في فيلم يحكي قصة الرسامة، رشح لنيل جائزة الأوسكار.

بعيدا عن المتاحف التقليدية تسنى لـ«الشرق الأوسط» زيارة المنطقة المعروفة بـ«مربع المتاحف» وهي منطقة شبابية تشتهر بالمرح والبساطة، مع نوع من الحداثة الراقية التي يعكسها وجود شباب مثقف يقرأ ويتابع المواسم الفنية.

يضم هذا المربع أكثر من متحف للفنون الحديثة، كما يضم عددا من صالات العرض والمسارح والمقاهي والمطاعم، وكلها مبان بسيطة ذات طابع عمراني جديد. وعلى طريقتها سهرت المنطقة طيلة الأمسية مع حفل موسيقي حي ورقص على أضواء الشموع على الرغم من رزاز المطر الذي لم يرغم الحضور على الانصراف، بل أضاف لرومانسية المكان.

أشهر متاحف هذه المنطقة «متحف ليوبولد» الذي استمد اسمه من اسم مالكه، الدكتور رودلف ليوبولد، وهو فنان نمساوي استمد شهرته من نجاحه في استعادة معظم اللوحات القيمة التي كانت موجودة بالنمسا، ثم اضطرت الحكومة النمساوية لإعادتها لملاكها الأصليين من أسر يهودية كان النظام النازي قد صادرها منهم.

ويقال إن رودلف ليوبولد، الذي توفي هذا العام، قد دفع المليارات داخل المحاكم وفي تسويات عقدت خارجها لاستعادة لوحات يعتبرها النمساويون جزءا من تاريخهم. يضم متحف ليوبولد أكثر من 200 لوحة بعضها لمونييه، ومنها جزء لبيكاسو ولأشهر الفنانين النمساويين أمثال جوستاف كليمت بجانب بعض المنحوتات ذات الطابعين الأفريقي واللاتيني، وجميعها معروض بصورة بسيطة في قاعات بسيطة بيضاء اللون، ما يسهل إمكانية استعراضها في وقت وجيز نسبيا.

من أهم المتاحف في هذه المنطقة أيضا: متحف للصغار اسمه «زوم أطفال» وتقوم فكرته على إتاحة الفرصة للأطفال للتعرف على مختلف الاختراعات التقنية الحديثة والأعمال الفنية بلمسها وتجربتها والتعايش معها في حرية كاملة.

الطريف أن الدخول لهذا المتحف يتم عادة بقطع تذكرة للطفل، بينما يسمح لمرافقه من الكبار بالدخول مجانا.

بعد زيارة هذا المتحف والوقوف بعض الوقت للاستمتاع بعرض لفيلم مصور ظل معروضا في الطريق العام أمام قصر الهوفوبورغ يؤرخ لأنشطة محلية واجتماعات عالمية وحفلات شهدتها قاعة الاحتفالات بقصر الهوفبورغ، كان الليل قد أوشك على نهايته، بينما عقارب الساعة تقترب من الواحدة صباحا؛ لذلك كان لا بد أن نسرع الخطى لنختم ليلتنا بزيارة متحف ليشتنتاين، الذي هو قصر كامل يقع في المنطقة التاسعة من فيينا ويحمل اسمه من اسم دوقية ليشتنتاين المعروفة بأنها أكثر بلاد أوروبا ثراء وما هذا القصر إلا تأكيد على ذلك.

يعرف الكثيرون من سكان فيينا هذا القصر من خلال قاعته الفخمة للمناسبات التي تقصدها بعض السفارات الغنية جدا لإقامة يومها الوطني، إلا أن القصر أكبر من ذلك؛ إذ يضم مكتبة نادرة، وعربة من نوعية نادرة كذلك كانت تجرها الخيول، ذهبية اللون تزخرفها ورود بالألوان الوردية والزرقاء فرنسية الصنع يسمونها «عربة دولة» يقال إنها الوحيدة من نوعها في العالم خصص لها موقع مميز في أرضية القصر، ما زادها بهاء. وهذه خاصية من خصوصيات هذا القصر الذي يتميز بذوق رفيع جدا في طريقة العرض، وقد يعود ذلك لقلة معروضاته نسبيا ولمساحته الشاسعة.

يعرض القصر مجموعة من اللوحات الفنية النادرة والتماثيل المصنوعة من البورسلين التي تم توزيعها على قاعات القصر بشكل جميل جعلها تبدو كأنها لوحات في منزل شديد الفخامة. هذا بالإضافة لقطع الأثاث النادرة، ومنها غرفة طعام تجعل الإنسان مهما كان حجمه يبدو وكأنه قزم في بلاد عمالقة. ومعلوم أن مقتنيات هذا القصر كانت قد جُمعت وحفظت خلال فترة الحرب العالمية الثانية في مدينة فادوز، عاصمة ليشتنتاين.

مقابل هذه القصور الفخمة التي تم فتح أبوابها للجمهور يبرز متحف مختلف تمام الاختلاف يعرف باسم «فيينا الحمراء» يعكس حقبة خاصة عاشت فيها فيينا تحت قبضة الحزب الاشتراكي كحزب سياسي واحد حكمها حكما أقرب للشيوعية لا تزال آثاره باقية في مبنى يشار إليه باسم «غرفة المغاسل» أو «فناء كارل ماركس» ويضم مساكن كانت قد بنيت في الفترة من 1927 - 1930 بأسلوب معماري لا مثيل له في العاصمة حتى بين المساكن التي بنتها المعتمدية وحرصت على توزيعها في كل الأحياء حتى لا تتقسم المدينة إلى أحياء فقيرة وأخرى ثرية.

وهكذا تمت الليلة من دون أن نزور إلا قلة من متاحف فيينا التي يزيد عددها على 105 متاحف بعضها مخصص لأغراض معينة، منها متحف للأحذية يقدم فصولا دراسية للعامة تمكنهم من التعامل مع أحذيتهم وكيفية الحفاظ على نظافتها، ومتحف عن تاريخ القهوة ولها أكاديمية تمنح درجات علمية، ومتحف عن كيف كان الأباطرة يدفنون، وكيف حرصوا على توزيع أجزاء من جثامينهم حتى يفتخر بدفنها أكثر من موقع مهم، بما في ذلك كنائس، منها كنيسة القديس اشتيفان والتي تجيء في مقدمة الأماكن المقدسة عالميا، إضافة إلى تلك المتاحف التقليدية المخصصة للطوابع والساعات والأسلحة ومختلف أنواع التقنية.