«الهوية العربية» كما يراها 9 من الفنانين

حزينة لكنها تسخر من نفسها ببراعة

رامي بعلبكي أمام تجهيزه الطريف والموجع في معرض «أرابيستي» («الشرق الأوسط»)
TT

على مدخل إحدى صالات «مركز بيروت للمعارض» (بيال) تستقبلك، حتى نهاية الشهر الحالي، لوحة ضخمة كأنما هي كتبت بدموع من الحبر الأسود، سُجّل عليها «عروبة وأعراب». لوحة ذات خلفية بيضاء، تكتفي بكلمتين مختزلتين تكادان تكونان المفتاح الذي من خلاله تقرأ أعمال تسعة من الفنانين العرب الذين يعرضون هنا، اختارتهم أمينة المتاحف، روز عيسى، لتبرز، من خلالهم، كيف يواجه العرب التحديات الحالية لإثبات هويتهم، على اختلاف البلدان التي ينتمون إليها.

لا يخفى على الزائر لمعرض «أرابيستي» الآتي من بريطانيا بعد نجاح مميز، كمّ الحزن المسيطر على أعماله التي تتخذ من العروبة جوهرا لمواضيعها، مع حفاظها الذكي على الظرف والسخرية وخفة الدم.

الطرافة لا تنقص الفنان المصري النوبي، فتحي حسن، صاحب لوحة «عروبة وأعراب»، فهو عاشق، على ما يبدو، للفنانة جوليا بطرس، ومن عبارات أغنياتها الثورية صنع عددا من لوحاته؛ فعلى لوحة تقرأ «وين الملايين»، وعلى أخرى «غابت شمس الحق»، وعلى غيرها «الشرف العربي». وعلى حائط مقابل لهذه الأعمال، تجد جدارية مكونة من لوحات صغيرة من الجص، تصطف قرب بعضها، كتب على كل منها اسم ما. ومن خلال 99 اسما اختارها الفنان وكتبها مزدانة بنوع من ورق إحدى النباتات، بينها «شمس»، «المتنبي»، «نجيب»، «درويش»، «منفلوطي» «مجنون»، «جبران»، تدرك كنه المناخ الممتد على المدى العربي الذي يتنفسه هذا الفنان الآتي من مصر، والمتجول بأعماله في أكثر من مدينة غربية. لوحة البورتريه التي رسمها فتحي حسن لنفسه، حيث بدا نصف وجهه بالأبيض والنصف الآخر بالأسود، تصور الانشطار الذي يعيشه، ولكن بتناغم وتصالح على ما يبدو.

الوجوه والشخصيات هي غرام الفنان شانت أفيديسيان. أناس تعرفهم لشهرتهم الكبيرة، وآخرون مجرد أشخاص عاديين رسمهم لمهنتهم، أو لمواضع خاصة في جلستهم أو وقفتهم تعبر عن حالة اجتماعية بعينها.

هنا لوحات ملونة زاهية وحيوية، لأم كثوم، الملك فاروق، أسمهان، جمال الدين الأفغاني. حنين إلى النهضة ومنتصف القرن الماضي، ولذلك ترى لوحة تصور نساء عاملات وأخرى لأم مع أولادها، وغيرها لأم وأب مع ولدهما الصغير. الإنسان العربي الذي رسمه أفيديسيان، نشط، مليء بالحركة، مقبل على الحياة.

الفنان المغربي حسن حجاج مصور فوتوغرافي، لا يقل عن أفيديسيان غراما بالألوان، حسه ساخر وله ولع بالتناقضات. هجرته من المغرب إلى بريطانيا، عام 1973، جعلته يعرف كم هو متعلق بوطنه، عودته إلى المغرب بعد أن بدأت عيناه تألفان عالما آخر مختلفا تماما عن موطنه، دفعته لأن يقارن بين العالمين، وتلتقط كاميراته ما لم تكن قادرة على رؤيته من قبل. عمل مصورا في مجلات للأزياء، تستفيد من الخلفيات المغربية لتصوير أجواء إكزوتيكية متجاهلة الإنسان الموجود على تلك الأرض. هذا ما استفز حسن حجاج، ودفعه لأن يلتقط صوره الخاصة لأهل بلده كما يراهم. فتشاهد عنده امرأة منتقبة بنظارات شمسية سوداء تركب على دراجة نارية، وقد رفعت رجليها لتستريح على مقودها، ومنتقبة أخرى تتخذ من العلم الأميركي بنجومه البيضاء غطاء لوجهها.

علب المشروبات الغازية من مغربية وأميركية، أو مادة الكاوتشوك الآتية من تطويع دواليب السيارات، تحولت إلى إطارات لصور حجاج الفوتوغرافية. هذه الصور التي لم يلتقطها بعفويتها بطبيعة الحال، بل هو ركبها وصممها وألبس شخصياتها ما أراد، وطلب منهم أن يتخذوا «البوزات» التي يراها مناسبة. صور وجدت إقبالا في السوق الغربية، وبيعت بأسعار مرتفعة، ومع ذلك يقول صاحبها: «أنا لا أعرف كيف أكون أكاديميا، وعملي هو مجرد تعبير عما أشعر به».

كيف تعبر عما يختلج في صدرك المتعب من الأسى؟ هو السؤال الذي لا بد أن يطرحه كل فنان على نفسه. والتسعة الموهوبون الذين اختارتهم روز عيسى ليعبروا عن محنتهم مع عروبتهم، تناول كل منهم وجعه على طريقته. اللبناني أيمن بعلبكي والفلسطينية رائدة سعادة، ربما كانا الأكثر طرافة في التعبير عن الألم. أيمن بعلبكي الآتي من الجنوب المعذب، عرض تجهيزا هو عبارة عن سيارة تاكسي من اللون الأحمر، عتيقة ومخلعة كما هي حال بعض سيارات الأجرة في لبنان، وحمّل على ظهرها أثاث منزل. يكاد يكون البيت كله على السيارة التي لا بد مجهزة لتهرب بأهل الدار إلى مكان ما يأمنون فيه على حياتهم.

أيمن يقول لنا إنه تهجر عدة مرات منذ صغره بسبب الحروب المستمرة في لبنان. وهذه السيارة التي وضعها داخل دائرة مضيئة نرى عليها الجهات الأربع، لا تذهب في أي اتجاه، وإنما تدور حول نفسها. هو عمل فني لكنه مستنسخ من الواقع. حول السيارة لوحات لأيمن بعلبكي، في اثنتين منها وجه لرجل التف بكوفية حمراء لا نرى غير عينيه. هل هو انتحاري يتأهب لعملية ما؟ هل نحن أمام ضحية تغمض عينيها عن مهالك الدنيا؟ يترك أيمن أسئلة وجوهه معلقة، ويرسمها على لوحات خشبية، مرة تكون مأخوذة من عربة كتلك التي يستخدمها الباعة المتجولون، ومرة غيرها يكون الرسم على باب دكان مغلق. لكنك لا شك تلحظ أن أيمن يحب الوجوه بأغطيتها المتنوعة، من الكوفية إلى الخوذة التي لها ما يستر الفم والأنف، وصولا إلى الكيس الذي يُلبسه المحققون لمعتقليهم لترهيبهم، ومنعهم من الرؤية.

أما الفلسطينية رائدة سعادة، التي عُرفت بتصويرها لنفسها في لقطات جذبت الانتباه، فهي هذه المرة تقدم إضافة إلى صورها، فيلم فيديو يصورها وهي تكنس الصحراء بمكنسة كهربائية. رائدة تبدو صغيرة الحجم كأنها مخلوق قزم، مع مكنستها التي بالكاد نراها وهي لا تتوقف عن كنس صحراء شاسعة مترامية الأطراف. لغة بصرية متميزة لهذه الفنانة الآتية من القدس، ومن قلب القهر الإسرائيلي اليومي لشعبها ولا ترى أفضل من الكنس المتواصل الذي لا يؤدي إلى شيء وسيلة للتعبير عن عبثية ما تعيش.

لكل فنان في هذا المعرض الجميل خصوصيته وأسلوبه. المصرية سوزان حفونا، اختارت المشربيات لتجعل منها محور أعمالها، منها ما هو خشبي أو معدني، تميزت بأنها تحمل أحرفا غربية وعربية، وبالتالي كلمات ورسائل. فالمشربية هي مكان للتواصل والاحتجاب في آن، وعبرها أرادت هذه الفنانة أن تقول كلمتها، بالعربية والإنجليزية، اللغتين اللتين تعرفهما.

أما باسل عباس وروان أبو رحمة الآتيان من رام الله فاستعانا بالفيديو والتركيب السينمائي للإضاءة على المعاناة الفلسطينية. السورية بثينة علي، رأت الحياة أشبه بأرجوحة. التجهيز الكبير الذي احتل ركنا واسعا من المعرض هو عبارة عن أرض رملية علقت فوقها عشرات الأراجيح، كل أرجوحة كتب عليها كلمة واحدة: «حب»، «كره»، «حسد»، «كذب»، «صدق»، «صلاة»، «كفر». إنها الحياة بوجوهها وتنوعاتها حين تتحول إلى مجرد أراجيح معلقة في الهواء. يخبرنا مسؤول المعرض عمر مظهر بأن أحد الزائرين حاول التأرجح فوقع التجهيز، لذلك فإن هذا العمل الفني ليس للعب، وإنما للتنزه والمشي بين أراجيحه وتنسم معانيه.

ثمة جامع مشترك بين أعمال هؤلاء العرب الذين يمثلون المنطقة من محيطها إلى الخليج، وبشقيها الآسيوي والأفريقي. فالحرف العربي بدا أساسيا ومتكررا، كما الحضور الإنساني والوجه البشري، إلى جانب اللثام للرجال والنساء، أو تخبئة الوجه سواء وراء المشربية أو الكوفية أو النقاب. تدخل المعرض الذي ينظم مع شركة «سوليدير» وأنت متحفز لاكتشاف ما يقوله هؤلاء الفنانون العرب البارزون في هويتك الحاضرة، وتخرج وقد زاد إحساسك بالالتباس حول ما تعنيه هذه الهوية لأصحابها، خاصة أولئك الذين يعرضون هنا، وغالبيتهم بات لهم في الغرب اسم وشهرة.