كنوز عائلة «ميديتشي» الإيطالية العريقة تتألق في باريس

تجار وصيارفة وبابوات شملوا الفنانين برعايتهم وساهموا في انطلاق عصر النهضة

TT

ليس متحف «مايول» من قاعات العرض الكبيرة والشهيرة عالميا، لكنه يتميز بأنه يقع في مبنى سكني عادي في قلب باريس الثقافية، ويستقبل، بين الحين والآخر، معارض استثنائية تجتذب الجيران، وزوار العاصمة الفرنسية الباحثين عن عراقة الماضي.

هذا الأسبوع، فتح المتحف الصغير قاعاته الرخامية لمعرض عن كنوز أسرة ميديتشي، وهي عائلة أرستقراطية من فلورنسا، أخذت لقبها من جدها الأكبر الذي كان طبيبا «ميديسان». ومنذ القرن الرابع عشر، راح أبناء العائلة يعملون في التجارة والصرافة وازدهرت أعمالهم بحيث جمعوا، على طريقة الأثرياء والمحسنين القدامى من رعاة الفنون، كنوزا فنية خلال عصر النهضة في إيطاليا، لتزيين قصورهم ومكاتبهم. وبلغ من سطوة «آل ميديتشي» أن فروع مصارفهم وقصورهم توزعت في 10 مدن أوروبية، من البندقية إلى جنيف في سويسرا، ومن ميلانو إلى ليون في فرنسا، ومن روما إلى لندن في الإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغرب عنها الشمس. وقبل رحيلها، وهب آخر أبناء السلالة مجموعة الأسرة الفنية إلى بلدية فلورنسا، وهي تلك اللوحات التي توزعت ما بين القصور وأقبية البنوك، يقدمها متحف «مايول» الباريسي لزواره في المعرض الذي يستمر 4 أشهر.

واقتناء أعمال كبار الفنانين، لم يكن مجرد هواية وعشق للفن بل أسلوب للتعبير عن الثروة والنفوذ. فقد ظهر من بين أبناء الأسرة اثنان من بابوات الكنيسة الكاثوليكية، كما تألقت من بناتها اثنتان أصبحتا ملكتين في فرنسا، أشهرهما كاترين التي يمكنها باللوحات المرسومة لها أن تملأ وحدها متحفا. ولم تكن مهمة استضافة هذا المعرض هينة، واحتاج القائمون على المتحف إلى أربع سنوات من التحضير وإلى استقدام أحد أفضل المخرجين في ميدان ترتيب المعارض، برونو موانار، لتوزيع اللوحات حسب فترتها الزمنية أو حسب مواضيعها، بشكل يليق بها، ولرسم المسار الذي يتبعه الزوار أثناء التجوال بين القاعات. دام التفاوض أشهرا طويلة مع وزارة الممتلكات الثقافية في روما ومع بلدية فلورنسا ومع أكثر من 30 مؤسسة ومتحفا وأصحاب مجموعات خاصة، قبل التوصل إلى استعارة 160 لوحة ومنحوتة وقطعة مجوهرات تشكل مادة المعرض. وقد جاءت غالبية اللوحات من توسكانيا، مهد الأسرة في إيطاليا. وتشكلت لجنة علمية للإشراف على شحن اللوحات وحفظها والتأمين عليها، في عملية تكاد تشبه في خطورتها تبادل الأسرى أو الجواسيس بين الدول. وهو ليس أول معرض يقام في أوروبا مخصص لعائلة «ميديتشي»، لكنها المرة الفريدة التي تتجمع فيها كنوز الأسرة لتصافح أعين الجمهور في باريس. وتقول باتريسيا نيتي، المديرة الفنية للمعرض، إن هذه اللوحات هي «رمز لانتصار الذكاء والجمال» الإنسانيين.

من يتجول في المعرض يشعر وكأنه قطع تذكرة سفر إلى عصر النهضة، حيث توزعت المرايا في السرداب وعكست أجواء القصور العريقة التي كانت تصدح فيها الموسيقى وتتلألأ الفضيات وثريات الكريستال تحت أضواء المشاعل والشموع. وليس هذا بمستغرب، لأن دليل المعرض يشير إلى أن القائمين عليه أرادوا نقل المتفرج إلى أماكن ساحرة ومدهشة. لهذا اختاروا له اسم «أسرة ميديتشي تتألق في متحف مايول». أما الطابق الأرضي فقد تصدرته مرآة ضاعفت من حجمه وجعلت الزائر يشعر وكأنه ضيف في بلاط فخم من تلك التي كان نبلاء فلورنسا يقيمون فيها حفلات استقبالهم. وقد كتبت الصحافة الفرنسية تقول إن هذا المعرض هو الحدث الثقافي الأبرز في الموسم الجديد الذي يعقب انتهاء عطلة الصيف.

من أكثر الأعمال شهرة لوحة بوتشيللي عن ميلاد السيد المسيح وقدوم ملوك المجوس حاملين إليه البخور واللبان. وهناك «البورتريه» الذي رسمه بالزيت على الخشب آغنولو برونزينو، عام 1543، للنبيلة الإسبانية إليانور دو توليدو. هذا فضلا عن الأعمال التي لا تقدر بثمن لرافائيل ومايكل أنجيلو وروبنز وبينفينوتو شيلليني. وقد كان الكاتب الفرنسي الكبير ألكسندر دوما محقا حين أعلن، ذات يوم، أن عائلة «ميديتشي» قدمت لرفعة الفنون ما لم يفعله من قبل الملوك ولا الأباطرة. فقد طبعت تلك العائلة تاريخ الفن ببصمتها وإليها يعود الفضل في النهضة الأولى التي شهدها القرن الخامس عشر، والنهضة التالية في القرن السادس عشر مع تشجيع فنانين من أمثال رافائيل ومايكل أنجيلو، وكذلك زمن النهضة الثالثة مع الفنان المدهش برونزينو. وكان كبار أثرياء الأسرة يبتهجون عند اكتشاف موهبة جديدة فيشجعون صاحبها على العمل ويشملونه برعايتهم ويقتنون لوحاته ويملأون بها قصور فلورنسا. وقد كان «كومو القديم»، أغنى رجل في أوروبا آنذاك، وراء ظهور موهبة الفنان فرا أنجليكو، وكان حفيده لوران العظيم وراء تشجيع بوتشيللي ورعاية مايكل أنجيلو. أما جان دو ميديتشي الذي جلس على كرسي البابوية تحت اسم ليون العاشر فكان راعي رافائيل، وكان قريبه البابا كليمون السابع من شجع أعمال مايكل أنجيلو وأدخلها كنيسة الفاتيكان لتبقى مرسومة على الجدران والسقوف، تتمتع بها الأجيال من كل الجنسيات. ويقول دليل المعرض إن نبلاء ذلك الزمن كانوا يشكرون الرب إذا تسنى لأحدهم اكتشاف موهبة فنية وتعهدها بالرعاية.