هل الحركة الفنية في أوروبا كانت ستتغير فعلا لو أن مودلياني عاش عمر بيكاسو؟

على شاكلة الهولندي فان غوغ لم يعش سوى 36 عاما.. لكنه تمكن من صناعة أسطورته الشخصية

أميدو مودلياني أنتج كمية غير قليلة من اللوحات التي تعبر عن شخصية قلقة ومتوترة على الدوام
TT

لا تعتبر اللوحات الـ45 التي يعرضها متحف مدينة سان تروبيز لأميدو مودلياني مجرد معرض عادي، فمودلياني الفنان التشكيلي الإيطالي الذي زامل بيكاسو وتحداه في كثير من الأحيان كان ولا يزال صاحب مدرسة خاصة، ووقع مميز في تاريخ الفن الحديث في القرن العشرين.

وهو فنان أسطورة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. كما أنه على شاكلة الهولندي فان غوغ لم يعش سوى 36 عاما، لكنه، خلال هذه الفترة البسيطة، تمكن من صناعة أسطورته الشخصية، حيث أنتج كمية غير قليلة من اللوحات التي تعبر عن شخصية قلقة ومتوترة على الدوام، قلما نشهد مثيلا لها في تاريخ الفن. لكن اللافت في أمر عدد السنوات التي عاشها هذا الفنان، أن عددا لا بأس به من الفنانين والكتاب الذي ينتمون إلى تلك المرحلة لم يعمروا طويلا، هكذا نجد فان غوغ السابق الذكر وكذلك فرانز كافكا الذي ولد قبله بعام ومات بعده بأربعة أعوام تاركا ما تركه من إرث أدبي رفيع المستوى. نذكر كذلك الشاعر آرثر رامبو الذي لم يعش طويلا وغيرهم كثر.

والحق إذا صحت المقارنة بعدد السنوات، أنها تحيلنا على أمر آخر، قد يكون مستغربا، وهو العلاقة الشخصية والندية التي كانت تجمع مودلياني ببيكاسو. مودلياني الذي عاش قليلا وأنتج ما أنتجه وبيكاسو الذي عاش طويلا وأنتج ما أنتجه، في مقارنة، على مستوى العمل، أحالنا عليها منذ الستينات الناقد الإنجليزي كولن ولسن الذي درس مودلياني مرتكزا على بنية نقدية - نفسية هدفت في وقتها إلى دراسة الجوهر الاستثنائي لأشخاص عملوا في الفن والكتابة والإبداع. ويحيلنا ولسن إلى سؤال لطالما تردد في دراسات جامعية ونقدية مهمة يقول بأن تاريخ الفن التشكيلي والحركة الفنية في أوروبا كان سيتغير لو أن مودلياني عاش عمر بيكاسو، ما يعني أن أسطورة بيكاسو، الذي ساعده بقاؤه وحيدا كزعيم للحركة التشكيلية على مستوى العالم، ستتأثر. وحتى لو كانت هذه المقارنة لا تصح سوى كونها فرضية مشروعة إلا أنها والحال هذه لا تزال قائمة كلما عرضت أعمال هذا الفنان الاستثنائي.

تفتح أعمال مودلياني المعروضة، هنا، في سان تروبيز، الممرات الكثيرة أمام ذائقة الجمهور العريض الذي يحب أعماله. لقد كان هذا الفنان يرسم بحساسية فائقة، إلى أنه كان يدخل إلى نفسيات الشخصيات التي يرسمها بريشة قاتمة نوعا ما وقاسية جدا. لقد أقام مودلياني مع رسوماته علاقة أكثر ما تكون علاقة شخصية عابرة. كان يعيش الوجوه التي يرسمها وكأنه يشرحها فسيولوجيا ونفسيا بطريقة فريدة لا يستخدمها أحد من معاصريه وحتى الأجيال التي تبعته. هو لم يتبع أحدا، لم يقلد ولم يكن تقليديا، كما أنه لم يكن يملك، على خلاف بيكاسو، شخصية منهجية، بل امتلك شخصية باحثة عن الدمار الإنساني الهائل الذي يظهر على الوجوه وفي الأعين وملامح الشخصيات المكونة لدمارها الهائل. شخصيات مودلياني هي شخصيات من قعر المجتمع، الشخصيات البائسة، والمدمرة نفسيا واجتماعيا، أولئك الذين كان حطامهم يتجاوز مجرد كونهم محطمين. المدمنون على الكحول والمخدرات، العالم السفلي للمدن الرأسمالية التي بدأت تعيش عصرا رأسماليا بشعا تجد الإنسان هو في أسفل سلم أولوياته.

في الفيلم الذي أخرجه ميك دايفس ولعب بطولته الأميركي الكوبي الأصل أندي غارسيا، كان مودلياني أكثر من مجرد شخص يعيش في باريس 1919 قبل عام واحد من موته. صور لنا الفيلم مودلياني باعتباره ليس فقط أسطورة فنية كبيرة ومؤثرة. بل نمط حياة فنان عاش صخب الحياة ومآسيها، كما عاش الحب كما يتخيله هو ويحبه، الحب الذي يوصل إلى الجنون والمرض والموت. الحب اللانهائي للمرأة بكل تفاصيلها وشجونها وما تمثله. اللوحات الـ45 الموجودة، هنا، في سانت تروبيز، تعيد مشاهد الفيلم إلى المخيلة. اللوحات معظمها لنساء للوهلة الأولى هن امرأة واحدة، لكن الحقيقة غير ذلك. الحقيقة أن مودلياني كان يرى الجانب الأكثر معاناة في وجه المرأة ويرسمه. نساؤه منحوتات نحتا، وجوههن قاتمة ومشعة وتفيض بالحب وبحرارة المعاناة. ربما، هذا فعليا ما صنع أسطورته، وليس فقط مقارعته لبيكاسو التي أظهرها الفيلم كما لو أنها مشادة بين سكيرين في مقهى.

الجامع بين لوحات مودلياني أن أصحابها بلا أسماء، نساء بلا أسماء، وفيما عدا أنطونيا التي رسمها مودلياني أثناء وجوده في باريس 1915 بقيت نساؤه بلا أسماء. وجوه لتمثيل الحياة التي تعيشها النساء في ذلك الزمن. نساء الشارع أو المقاهي أو حتى النساء المتشردات في طرقات المدينة فترة الحرب العالمية الأولى. نساء أبقاهن مودلياني شاهدات عليه هو، على موهبته الفريدة، وعلى مرحلة من تاريخ الفن والمجتمع يبدو أن العودة إليها بين الحين والآخر مفيدة وضرورية.