زها حديد تصمم مدرسة نموذجية في منطقة غير نموذجية

بعد فوزها بجائزة «ستيرلينغ» تفتتح إنجازها الجديد في منطقة «بريكستون» اللندنية الفقيرة

مدرسة «إيفلين غرايس أكاديمي» التي صممتها المعمارية زها حديد (تصوير: لوك هايز)
TT

لا يختلف اثنان أن زها حديد هي أهم امرأة في مجال الهندسة المعمارية في العالم، ليس لأنها أول امرأة تحصل على جائزة بريتزر بعد 35 عاما من تأسيس الجائزة، أو لأنها حصلت على جائزة «ستيرلينغ» التي لا تقل أهمية مؤخرا رغم أنف المعارضين، بل لأنها لا تتوقف على مفاجأتنا بدخولها مضامير جديدة، مثل الموضة والديكور الداخلي وأخيرا وليس آخرا مجالات المعمار الاجتماعي، من خلال مدرسة. ومع كل هذا النجاح، يبقى المثير للتساؤل أن زها التي اشتهرت بتصميمها عدة مبان خارج بريطانيا لم تصمم إلا القليل في البلد الذي درست فيه وتعيش فيها منذ نحو ربع قرن. فهل لأن بريطانيا غير مستعدة لأسلوبها ولم تفهمه بعد؟ أم لأنها لا تزال ترى أن تصميماتها من وحي الخيال والفانتازيا التي يصعب تطبيقها في أرض الواقع، وحتى في حال تم ذلك فإنها تكلف ميزانيات غير مقدور عليها؟. وسواء كان السبب هو هذا أو ذاك، إلا أنها أخيرا انتزعت حق تصميم المسبح الأوليمبي في منطقة «ستراتفورد» بلندن، الذي لم ينته بناؤه بعد، ومدرسة نموذجية في منطقة «بريكستون» فتحت أبوابها مؤخرا للتلاميذ، هي مدرسة «إيفلين غرايس أكاديمي». المدرسة قد تكون نموذجية بكل المقاييس، لكن المنطقة الواقعة جنوب لندن، أبعد ما تكون عن النموذجية، فهي معروفة بارتفاع نسبة الجرائم والفقر فيها، لكنها بفضل زها حديد أصبحت تتمتع بتحفة معمارية تحسدها عليها أرقى المناطق. المدرسة، أو الأكاديمية كما تحب الحكومة البريطانية أن تصنفها، هي واحدة من بين 8 مدارس ممولة ومدعومة من المؤسسة الخيرية ARK (أبسولوتلي ريتورن فور كيدز) تهدف إلى إعطاء الأطفال المنحدرين من طبقات فقيرة فرصة لتغيير حياتهم للأفضل من خلال منهج دراسي خاص من شأنه أن يصنع أطرا مهمة في الحياة. ويوم الجمعة الماضي، التقت «الشرق الأوسط» زها حديد ومجموعة من المسؤولين على المدرسة للتعرف على المزيد، ولأن منطقة «بريكستون» ليست من المناطق التي يتعود المرء على زيارتها، وبالتالي قد يضيع في شوارعها وبين مبانيها «الفيكتورية» المتشابهة، فإن الأكاديمية تقف متميزة وشامخة من بعيد و كأنها منارة تجذبك الى بر الامان. أول ما يشد الانتباه، شكلها الإسمنتي الملتوي والمتعالي على شكل حرف Z. وعند الوصول إليها، يشدك في أحد مداخلها مضمار جري بلون أحمر وخطوط بيضاء يمتد على طول 100 متر يربط المدخل بجهة أخرى من البناية ليكون صلة الوصل بينها. أما في الداخل وبين الردهات، فتظهر خطوط هندسية بشكل مائل لترتفع وتنحرف باتجاه الزوايا لتأخذ التلاميذ إلى فصول وأجزاء أخرى، فيما يشرح مدير المدرسة، بيتر وولكر، أنها أيضا تساعد على تحديد مواقع «المدارس الـ4 الصغيرة» بداخل المدرسة الكبيرة أو الأحرى البناية ككل، بحكم أن «إيفلين غرايس» ستحتضن أعمارا ومستويات تعليمية مختلفة.

بدورها تشرح زها حديد تصميمها بقولها: «هذه المدرسة مكونة من عدة مدارس متداخلة بعضها في بعض، وتتكون من مجموعة من الأجنحة العصرية المتراصة في الوسط حتى يسهل التنقل بين أقسامها. فالمدرسة بنيت في وسط المساحة التي تبرعت بها بلدية (لامبيث) بينما أحيطت بها كل التسهيلات الأخرى، بما في ذلك مضمار الجري، الذي يتواصل مع داخل المدرسة وخارجها. فقد كان من المهم بالنسبة لي أن لا تكون مدرسة مبنية على جوانب المساحة الكبيرة بالأسلوب العادي الذي تكون فيه التسهيلات في الوسط». الشفافية كانت أيضا مهمة بالنسبة لزها حديد، الأمر الذي يفسر كمية الضوء التي تخترق الفصول والردهات بفضل نوافذ تمتد من أسفل الأرض تقريبا إلى أعلى السقف، وتمكن من رؤية ما يجري بداخل الأقسام كما تمكن من بداخلها من رؤية ما يجري في الخارج. وتشرح زها لـ«الشرق الأوسط» أنها عندما حضرت لمعاينة المكان لأول مرة منذ سنوات، كان مختلفا تماما عما هو عليه الآن: «إنها اليوم تأخذني إلى أيام المدرسة في بغداد، وهي مدرسة راهبات كاثوليكية، تستقبل كل الجنسيات والأديان، وكانت الناظرة فيها صارمة في رؤيتها وهدفها. كان كل فكرها وأجندتها منصبين على أن تصنع من الفتيات اللواتي يلتحقن بها، قائدات في أي مهنة يقمن بها في المستقبل. ولتحقيق هذا الهدف كانت تقنع بروفسورات الجامعات بزيارة المدرسة وتقديم محاضرات فيها، حتى تحصل الفتيات على أحسن الدروس في الرياضيات والعلوم».

كان واضحا بقولها هذا أنها كانت تريد أن تعانق المدرسة نفس المبادئ التي كونتها في الصغر، بتوجهها إلى الأطفال الذين التفوا حولها بفضول بلباسهم المدرسي الموحد وابتسامات الانبهار على وجوههم. فلا شك أنهم سمعوا اسمها يتكرر أمامهم لأكثر من عامين قضوها في مدارس مؤقتة وضيقة قبل أن يحين افتتاح أكاديميتهم في الشهر الماضي. هي بدورها، كانت تنظر إليهم بحنان قد يراه البعض متناقضا مع الصورة الصارمة التي تظهر بها عادة، وهي ترد على أسئلتهم وتشرح لهم أن المثابرة على العمل هي الطريق للنجاح وتحقيق الذات. كان واضحا أنها تحاول أن تفتح أمام أطفال منطقة «بريكستون» الفقيرة آفاقا وفضاءات جديدة تعطيهم الإحساس بأنهم غير منسيين وأن الأمر بأيديهم الآن ليغيروا مسار حياتهم. فعندما سألها أحدهم كيف أصبحت معمارية، ردت بأنها «مسألة عمل وتفان والأهم من كل هذا هي مسألة تركيز، فمن دون تركيز على الهدف، لا تنفع الموهبة وحدها». لكنها سرعان ما أضافت «أنه من المهم أن يجد المرء التعليم ملهما لأنه لا يعرف إلى أي مدى يمكن أن يصل بفضله».

وهو ما وافقها عليه بيتر وولكر، مدير المدرسة بقوله إن المنهج الدراسي في مدرسته الجديدة سيكون متميزا وصارما وفي الوقت ذاته سيشجع التلاميذ على البحث على أساس أن البحث من الطرق التي تساعد على النجاح والتميز. فساعات التدريس فيها، مثلا، أطول من غيرها من المدارس، تمتد من 8.30 صباحا إلى 5 مساء.

كل ركن من أركان البناية ونوافذها وتسهيلاتها وانفتاحها على العالم الخارجي فضلا عن التواءاتها وهندسيتها غير التقليدية، بل وحتى نضوجها المعماري، يريد أن يبلغ رسالة إلى تلاميذها مفادها أنها تقدرهم وتريد إخراج كل ما في طاقتهم لكي ينجحوا في الحياة، على الرغم من البيئة المتواضعة جدا التي يعيشون فيها. فالمدرسة التي كلفت ميزانية تقدر بـ36 مليون جنيه إسترليني لا بد أن تشعرهم بأهمية وجودهم فيها، وأن مستقبلهم يساوي كل هذه الملايين.

زها حديد التي كانت دائما تحلم بتصميم مبان لأغراض اجتماعية يمكن الاستفادة منها بشكل جماعي وإنساني، تشير إلى أنه من المهم «بالنسبة لمعماريين مثلي أن يشاركوا في أعمال اجتماعية مثل شقق إسكان شعبي، مدارس ومستشفيات ومتاحف وغيرها، لأننا أولا وأخيرا يجب أن نهتم بحال الناس. ثم إن المدن لا يمكن أن تعيش من دون ثقافة، ومن هذا المنطلق لا بد أن يكون فيها متاحف، وقاعات موسيقى وغيرها من الأماكن التي يمكن لأي واحد دخولها والتمتع بها، على العكس من البنايات الخاصة. والحكومة يجب أن تهتم بهذه الأمور البسيطة، ومن بينها التعليم. لقد درست لمدة 30 عاما، وكنت أعمل أحيانا يوميا إلى الساعة الثانية صباحا، وعندما كان أحدهم يسألني لماذا أقوم بذلك، كنت أرد بأنه لا بد من تبادل بين المهنة التي أقوم بها وبين التعليم. ليس لأني أريد أن أحصل على أفكار من الطلبة لكن لأن هذا التواصل والاحتكاك إيجابي لتطوير فكرهم وفي الوقت ذاته يسمح للواحد منا برد الجميل، فضلا عن أنه يسمح لك برؤية الأمور من منظور شبابي يسلط الضوء على ما تريده الأجيال القادمة».

يمكن القول إن الخطة التي رسمت بها الفصول والردهات في مدرسة «إيفلين غرايس» بسيطة جدا، عبارة عن فصول على جوانب ممرات واسعة في الوسط، ونوافذ زجاجية تؤكد فكرة الشفافية، لكن هذه البساطة تتلاشى بالنظر إلى طريقة هندستها غير النظامية وانحناءاتها المعقدة لربط قاعات المدرسة الصغيرة بمختلف المستويات الأخرى، والتي تشير إلى أسلوب زها حديد الذي طالما أخاف البريطانيين، وأثار لغط بعض الأوساط، التي ترى أن الميزانية الكبيرة التي خصصت لهذه المدرسة كبيرة وكان من الممكن تقسيم توزيعها بشكل آخر، أو تركيزها على جوانب أخرى بدل التركيز على تصميمها. ورغم ما في هذا الرأي من صحة، فإنه من الصعب الاعتقاد أن العلاقة بين التعليم والمكان غير مهمة ولا تؤثر، فمن حق التلاميذ أن يجربوا هذه الأماكن ويعيشوا شفافيتها ومساحتها المفتوحة. هناك أمر كان على بال زها حديد عند تصميمها له. فالكثير من هؤلاء الأطفال قد لا تتاح لهم فرصة السفر لأنه ترف بالنسبة لهم، ولهذا فإن مكانا بهذا الشكل يمكن أن يحفزهم ويفتح أمامهم آفاقا واسعة تماما مثل نوافذها التي تمتد من الأرض تقريبا إلى السقف، ومن ثم تحسن فرصهم في الحياة، وهذه أساسا هي فكرة المدرسة الأكاديمية حتى قبل أن تولد.