تراجع صناعة الحرير في قرية صينية نسجت ثياب الملوك

بعد أن وجد شبابها أن بإمكانهم كسب المزيد من المال إذا قاموا بالهجرة إلى المدن

بدأ القرويون في إنتاج الحرير ذي الجودة العالية في نهاية عهد أسرة يوان في القرن الرابع عشر («نيويورك تايمز»)
TT

في وقت من الأوقات، جعلت المياه النقية وشجر التوت ويرقات دودة القز الصغيرة البيضاء هذه القرية أشهر قرية في عموم الصين. كانت دودة القز تقوم بنسج الشرانق التي تستخدم بعد ذلك لنسج خيوط الحرير الذي كانت تسوق في جميع أنحاء العالم. وكان هذا الحرير المصنوع في جيلي يستخدم في صناعة العباءات والجوارب والأحذية المنزلية وأغطية الرأس.

هناك القليل من المنتجات التي ترتبط بالصين مثل الحرير. ولفترة من الزمن لم يكن هناك اسم مرادف للحرير عالي الجودة غير اسم قرية جيلي. وفي عام 1851، عندما تم تنظيم أول معرض عالمي «وورلد أكسبو» في لندن، والذي أطلق عليه اسم المعرض العظيم، قام أحد رجال الأعمال الصينيين بعرض حرير جيلي.

وقد فاز حرير جيلي في المعرض بالجائزتين الذهبية والفضية، وقد سلمتهما الملكة فيكتوريا لمسؤولين عن الجناح الخاص به في المعرض.

وقد قدم الحرير المعروض بعد ذلك إلى الملكة فيكتوريا كهدية في عيد ميلادها. وفي هذا العام يقام المعرض العالمي في مدينة شنغهاي على بعد 80 ميلا من مدينة جيلي، لكن حرير جيلي غير معروض في أي جناح من أجنحته.

وقد أثبتت صناعة الحرير في جيلي أنها أقل ثباتا ومرونة من الحرير، شأنهم شأن الكثير من سكان المناطق الريفية في الصين، تدفق الكثير من شباب هذه القرية التي تقع في مقاطعة تشجيانغ إلى المدن بحثا عن فرص عمل، ولم يبق سوى آبائهم الذين ظلوا في القرية يحافظون على التقليد الشهير بتربية دودة القز وإنتاج الحرير.

وقد كان سكان قرية جيلي يسكنون نحو خمسين منزلا مصطفة حول بحيرة صغيرة، حيث كانت تسير المراكب المصنوعة من الأخشاب، وكانت مزارع شجر التوت تلتف حولهم.

وكانت، في كل بيت، الأدوات اليدوية التي تستخدم في نسج خيوط الحرير. وفي عهد أسرة تشينغ، التي تأسست في القرن السابع عشر، كان حرير قرية جيلي يستخدم في صنع ملابس البلاط الإمبراطوري في بكين وثياب الإمبراطور نفسه. والآن، لا يوجد سوى مصنع واحد متهالك يقوم بتصنيع الحرير في المنطقة، ويقوم أهالي القرية بتربية دودة القز مرتين فقط في العام، مقارنة بخمس مرات في السنة في ثمانينات القرن الماضي.

ويقول وانغ يسي، وهو قروي في منتصف العمر، عن فن تربية دود القز: «الكل يعرف فقط كيفية القيام به، عندما كنت طفلا كنت أشاهد الكبار وهم يقومون بذلك، لكن ربما في غضون بضع سنوات لن يكون هناك أحد يعرف كيف يقوم بذلك».

ومثل بعض القرويين الآخرين، قال وانغ إنه لم يقوم بتربية أية دودة قز في ربيع هذا العام؛ لأن السكان المحليين لم يحققوا الكثير من المال من بيع الشرانق في العام الماضي. إنهم لم يعودوا ينسجون الحرير؛ لذلك فإن دخلهم الوحيد من هذه الصناعة يأتي من مبيعات الشرانق.

وقد بدأ القرويون في إنتاج الحرير ذي الجودة عالية في نهاية عهد أسرة يوان، في القرن الرابع عشر. وقال لو شيهو، وهو مؤرخ محلي من بلدة ننشون القريبة: إن المناخ والمياه في جيلي كانا مثاليين لتربية دودة القز، ما جعل الحرير المحلي مميزا. وأضاف لو: إن حكام الصين أصبحوا على دراية بالحرير الذي تنتجه قرية جيلي بعد أن انضم ثلاثة من علماء المنطقة إلى البلاط الإمبراطوري في مينغ. وخلال عهد أسرة تشينغ، تم شحن الحرير شمالا إلى بكين على متن قارب عبر القناة الكبرى.

وبلغ نجاح صناعة الحرير ذروته بعد انتهاء حرب الأفيون الأولى عام 1842، ومن خلال ما يطلق عليه الصينيون معاهدات غير متكافئة، فازت الدول الأجنبية بامتيازات تجارية في شنغهاي وغيرها من المدن وأصبح بمقدور الشركات الأجنبية شحن وتصدير حرير قرية جيلي إلى الخارج.

وقبل ذلك، تمكن الأجانب من الحصول على حرير جيلي، ولكن بكميات أقل بكثير؛ وذلك فقط لأنه كان ينقل سرا إلى منطقة قوانغتشو الجنوبية، بالمخالفة لأوامر الإمبراطور، ومن هناك كان يتم تهريبها إلى خارج الصين.

ويرتبط جزء من الصين، الذي يشكل اليوم مقاطعة تشجيانغ، بأول إنتاج للحرير على مستوى العالم، ووفقا لعروض في متحف الحرير في مدينة سوتشو التي تقع على ضفة القناة الكبرى، فإن علماء الآثار عثروا على إناء توجد عليه صور لدودة القز، ويعود تاريخه إلى أكثر من 4000 سنة قبل الميلاد.

ووفقا للأسطورة، فإن لي زو، وهو أحد المرافقين للإمبراطور الأسطوري الأول للصين لدي هوانغ، قد قدم تربية دودة القز للشعب الصيني في «العصور السحيقة».

وابتداء من القرن الثالث قبل الميلاد، سافر الحرير إلى أوروبا عبر طرق الحرير المختلفة. وقد سعى حكام الصين بجد للحفاظ على تصنيع الحرير سرا؛ حيث إن التجار الغربيين كانوا يعتقدون أن الحرير ينبت على الأشجار في الصين، حتى تم تهريب دودة القز إلى القسطنطينية. وكانت منطقة سوتشو مركز إنتاج الحرير خلال حكم أسر تانغ وسونغ، وكان الشعراء يكتبون القصائد عن أشجار التوت والحرير وهم يشربون خمر الأرز.

وفي فترة ما، تجاوز عدد آلات نسج الحرير في ورش الحرير في جنوب الصين 10000 آلة. وقد قام أباطرة أسرة تشينغ بجولات تفقدية لهذه الورش، وقضى بعضهم ليالي في مكتب نسج الحرير في سوزهو، التي كان بها مئات من الغرف. وكتب جد كاو تساوغين، وهو المؤلف الشهير لرواية «حلم الغرفة الحمراء»، عن هذه الورش.

وبعد ازدهار صناعة الحرير مع فتح شنغهاي أمام الشركات الأجنبية، هيمنت شركة تجارة الحرير التي تملكها 4 عائلات - التي تسمى فور إليفانتس - على المنطقة. وقد بلغت ثرواتها مجتمعة ما يعادل الإيرادات الضريبية السنوية التي كان حكام أسرة كينغ يجمعونها من الصين كلها. وأقامت الأسر التجارية القصور الفخمة. وأحد هذه القصور لا يزال قائما في منطقة ننشون، وقد قام ببناء هذا القصر تشانغ شي مينغ بين عامي 1899 و1905، ويحتوي هذا القصر على صالة للرقص وبه 600000 كتاب، وهي من أكثر مجموعات الكتب شمولا خلال عهد أسرة تشينغ.

وقد تزامن تراجع صناعة الحرير المحلية مع الثورة الصناعية؛ حيث لم تتمكن الآلات اليدوية لتصنيع الحرير في جيلي من منافسة الآلات الحديثة التي أدخلت في القرن العشرين. وتوقفت الصناعة تماما عندما قام اليابانيون باحتلال هذا الجزء من الصين خلال الحرب العالمية الثانية، وقد شجع الشيوعيون الصينيون التصنيع الضخم في جميع أنحاء الصين بعد عام 1949.

ومع تغير البيئة في جيلي، أسهم تلوث المياه النقية، التي كانت ضرورية لتربية دودة القز، بمخالفات المصانع في تراجع هذه الصناعة.

والآن، وجد الشباب في قرية جيلي أن بإمكانهم كسب المزيد من المال إذا قاموا بالهجرة إلى المدن والعمل هناك. وقال وانغ، الذي يعيش في قرية جيلي إنه يمكن إنقاذ صناعة الحرير المحلية في جيلي فقط إذا قدمت الحكومة إعانات. وأضاف: «لدينا أفضل أنواع الحرير هنا، إنه أفضل من أي حرير موجود في أي مكان آخر.. هذا هو الحرير الأصلي، وينبغي على الحكومة حمايته».

وقال وانغ: إنه في كل موسم، خلال الدورة التي تستمر لمدة 20 يوما والتي تقوم خلالها دودة القز بنسج الشرانق، فإن أهالي القرية يعملون بجد. ووصف هذا الجهد قائلا: «إنه أمر متعب حقا، لا يمكنك النوم في الليل؛ لأنه يتعين عليك تغذية دودة القز عدة مرات في اليوم، وكلما قدمت إليها الأكل بصورة أسرع، نمت بصورة أسرع».

ويقوم القرويون ببيع الشرانق للشركات من خلال شركات وسيطة، والتي تقوم بدورها بإعادة بيع الشرانق للمصانع. وأضاف وانغ قائلا: إنه إذا كان بإمكان القرويين بيع الشرانق بسعر 240 دولارا أو أكثر مقابل كل (110 أرطال)، فإن شهر العمل سيكون مجديا بالنسبة لهم. لكن الطلب في المنطقة على الشرانق قد تراجع، ففي العام الماضي، كان سعر السوق منخفضا، وقرر الكثير من القرويين عدم تربية دودة القز في ربيع هذا العام.

وفي أحد المصانع القريبة، ومن وراء بواباته الصدئة، يكدح 40 عاملا على الآلات التي تحول الشرانق إلى خيوط من الحرير، لكن حجم إنتاجهم السنوي البالغ 30 طنا يعتبر صغيرا نسبيا. وقال شين يو شي، مدير المصنع: إن الحكومة المركزية قد أدارت ظهرها للصناعة المحلية؛ لأنها كانت تشجع إنتاج الحرير في غرب الصين للمساعدة على تطوير الاقتصاد هناك.

وقال شين: «في أوج ازدهارها، كان الحرير ينسج يدويا، وكانت المنطقة كلها تشارك في ذلك النشاط.. ذلك عندما كان حرير جيلي اسما، وكان له أهمية. لكنه غدا الآن تاريخا فقط».

* أسهم شيون يانغ في التقارير من بكين

* خدمة «نيويورك تايمز»