الرسم في سن الـ99.. بلا مساومة

ويل بارنيت كاد أن يصبح فنانا تجاريا في السبعينات من القرن الماضي

يعرض حاليا تطور بارنيت كرسام أميركي معاصر في معرض «ويل بارنيت ورابطة طلاب الفن» الذي يحتفي بمئوية بارنيت وتأثيره على أجيال الفنانين (نيويورك تايمز)
TT

مدفوعا بمنحة إلى رابطة طلاب الفنون، غادر ويل بارنيت، وهو فنان طموح يمتلك سيرة ذاتية غنية برسم لوحات عن المناظر البحرية والقطط الأليفة، مدينة بوسطن متوجها إلى مدينة نيويورك عام 1931 بـ10 دولارات في جيبه. حدث هذا في فصل الصيف حيث كان الطقس حارا، وبالإضافة إلى القمامة التي كانت متعفنة في الشوارع خلال مرحلة الكساد الكبير، كانت الأجواء ملبدة بالمظاهرات السياسية الصاخبة. وقتها استأجر بارنيت غرفة بدولار واحد في الليلة، وكان يتغذى على الفاصولياء الرخيصة في مطعم أوتومات. وبدأ بارنيت في رسم الأوجه البائسة والحزينة التي شاهدها في كل ركن. وكان عمر بارنيت وقتها 19 عاما، وكان يتصرف بحس فني متطرف من وحي الاحتمال.

ويعود بارنيت بذكرياته فيقول: «شعرت بأنني مثل غاري كوبر؛ كراعي أبقار في فيلم غربي». وجاب بارنيت أرجاء المدينة بنفس الطريقة التي جاب بها رسامه المفضل أونوريه دومييه شوارع باريس، وكان هذا هو مصدر وحيه وإلهامه. وكان أسلوب بارنيت يرتكز على الواقعية الاجتماعية الصارمة والمكتئبة.

وبعد مرور 8 عقود على هذا التاريخ، يستمر بارنيت، الذي أصبح يعاني من مشكلات في السمع ولكنه لا يزال سليط اللسان، في ممارسة الرسم كل يوم، حيث يرسم أشكالا مجردة بألوان غريبة وعميقة كما كان يشعر دائما. ويعرض حاليا تطور بارنيت كرسام أميركي معاصر خلال الشهر الحالي في معرض «ويل بارنيت ورابطة طلاب الفن» وهو معرض يحتفي بمئوية بارنيت وتأثيره على أجيال الفنانين، ويشتمل على أعمال لرسامين مشاهير من رابطة طلاب الفن وزملاء مثل لويز بورجوا وجيمس روزينكويست.

وقال بارنيت، الذي لم يعد يستخدم قدمه اليسرى منذ عامين بعد تعرضه لحادث سقوط: «لقد رأيت كل هذه اللوحات ولكنني أود أن أراها مرة أخرى. ولا أرى فارقا بعد وصولي إلى سن التاسعة والتسعين، غير أن هذه السن تختلف عن كوني في سن التاسعة عشرة. وكنت قد اعتدت على العمل لمدة تتراوح ما بين 8 إلى 10 ساعات يوميا». ولكن بارنيت يرسم الآن لمدة ثلاث أو أربع ساعات على الرغم من عدم قدرته على الوقوف. وأضاف بارنيت بقوله: «لم أتساهل ولن أتخلى عن الرسم مطلقا، فلا زال الرواد القدامى أحياء بعد 400 عاما، وهذا ما أريد أن أصل إليه».

ويعتبر بارنيت، الذي بدأ حياته الفنية برسم صور شخصية في قبو والديه بمدينة بيفرلي في ولاية ماساتشوستس، «بنفس الطريقة التي كان يعمل بها الرسام الهولندي الشهير رامبرانت، على ضوء يأتي فوق كتفه الأيسر»، نموذجا للتفرد والتميز الأميركي في القرن العشرين. وكان بارنيت هو الشخص الذي امتنع عن انتقاد المدرسة التعبيرية المجردة عندما ثارت المؤسسة الفنية الأميركية على هذه المدرسة (حيث كان هناك شعور سائد بأن معظم هذه اللوحات مثل أشياء عرضية). ولكن أعماله الكبرى التي رسمها خلال الفترة ما بين عقد الخمسينات إلى عقد السبعينات من القرن الماضي - المجردة والرمزية والبيزنطية والهندية، تباع الآن بسعر يصل إلى 400 ألف دولار أميركي. وأقام بارنيت 80 معرضا فرديا، آخرها معرض أقامه خلال ربيع العام الحالي في معرض ألكسندر غاليري. وتوجد أعمال بارنيت في متحف متروبوليتان للفنون ومتاحف غوغنهايم وويتني، عادة في المخزن. يقول بارنيت: «إنهم لا يعرضون أعمال فنانين من طبيعتي، حيث لم يعرض متحف ويتني أعمالي خلال 30 عاما».

يقول روبرت كين، وهو رسام انطباعي وتلميذ سابق لبارنيت الذي تندرج أعماله في معرض يظهر مشواره الفني: «لقد سلك طريقا مستقلا، في تناقض غالبا مع التوجه الشائع أو السهل. ولكن العالم الفني هو ما كان متناقضا وليس ويل». وأضاف «هناك مقولة شهيرة للرسام الإسباني الشهير بيكاسو، يبدو لي بأنه سر نهج ويل، تقول: يرسم بعض الأشخاص بقعة حمراء وكأنها الشمس؛ بينما يرسم آخرون الشمس ولكنها تبدو مجرد بقعة حمراء».

وكان ويل بارنيت، المغرم ببيكاسو وإنجريس وسيزان يرغب في أن يكون رساما أميركيا معاصرا في مدينة أميركية بالقرن العشرين؛ حيث كانت الرابطة قبلة للفنانين من هواة الحداثة. ولم يردعه عدم اكتراث والديه (كان والده ميكانيكيا في مصنع للأحذية) أو انتحار جوليس باسكين، الذي كان سيصبح أول مدرس له في الرابطة خلال عام 1931. ويستحضر بارنيت ذكرياته فيقول: «كان يتعين علي أن أكون فنانا وألا أضحي بنفسي لأي شيء غير الفن».

ولم يكن بارنيت يعرف أي شخص في نيويورك، ولكنه وصل إلى هناك بخطاب تقديم من صديق في مدرسة متحف الفنون الجميلة بمدينة بوسطن الذي كان لديه عم أرمني في المدينة، وهو الفنان السريالي أرشيل غوركي. وقد سافر بارنيت إلى وسط المدينة حتى وصل إلى مرسمه دون أن يعلمه بهذه الخطوة. وأثناء وقوفه على الرصيف، سمع بارنيت صراخا، ولكنه لم يطرق على الباب بأي حال. واتضح أن غوركي كان غاضبا لأن الفئران كانت قد دمرت في الليلة الماضية ملصقة فنية كان مرسوما عليها جبن كانت وسط أدوات الرسم.

وبعدما هدأ، اصطحب غوركي ضيفه بارنيت في جولة توجيهية توقف خلالها خارج محل للأحذية عليه علامة تجارية مرسومة بشكل خيالي عجيب. وقال: «أيها الشاب، هناك يكمن مستقبل الفن في أميركا». لم يتحدث بارنيت، ولكنه لم يكن على الإطلاق معجبا بما سوف يصبح معروفا باسم فن البوب. وفي أكثر مرة كاد بارنيت أن يصبح فنانا تجاريا عندما بيعت ملصقات تحمل رسومات رسمها في عقد السبعينات من القرن الماضي (أكثرها شهرة «امرأة تقرأ»)، حيث بيعت بعض النسخ مقابل 30 ألف دولار أميركي، ولكن لم تكن هناك أشياء لاحقة أو أشكال مختلفة منها.

وبمرور السنين، تحول عمل بارنيت من الواقعية الاجتماعية إلى تجريد بسيط استخدم درجات غير لامعة من الألوان بهدف نقل عاطفة وعمق معين، وفي أوج أعماله كان يتنقل بسلاسة بين الأعمال التجريدية الخالصة والأعمال التصويرية الصرفة. وكمدرس، رفع بارنيت صناعة الطباعة إلى شكل فني وأكد للرسامين الفارق بين الفنون الجميلة ونقل الأشياء إلى لوحات زيتية على قماش.

* خدمة «نيويورك تايمز»