معرض المصاحف المخطوطة في غرب البلقان.. يهز وجدان الزوار مع إشراقات العيد

أقيم في قلب سراييفو العتيقة

غلاف فضي لأحد المصاحف المكتوبة بخط اليد («الشرق الأوسط»)
TT

ليس العيد في غرب البلقان أكل حلوى ولحم، ولا هو مضمار للحديث عن منغصات الحاجات والأسعار، ولكنه فرصة لإبصار هامش الفرحة، ومداها وآفاقها الواسعة.

لا تشغل الناس في غرب البلقان، رغم الحاجة، أسعار الأضاحي، ولا يتباكون على افتقاد خرفان العيد، ولا «يشهرون» بأسعارها المشطة، إذ يكتفون بالقليل، وبما توفر. وإذا حصل بعض الجيران من جيرانهم على بضعة غرامات من اللحم، يكون الجميع قد اشتركوا في إحدى مميزات العيد، أما المميزات الأخرى فهي مشاع للجميع، الصلاة التي تجمع الكل، واللقاءات والزيارات العائلية، والعلاقات الحميمية التي تبلغ الذروة في العيد.

المناسبات الإسلامية في غرب البلقان، كالعيدين، لا يكتفي المسلمون فيها بمظاهر الإشباع المادي، والاجتماعي فحسب، وإنما يعبرون عن فرحة العيد، أيضا، بحراك ثقافي، يؤكد بشكل موضوعي انتماءهم لثقافة الاعتزاز بالذات الجماعية. فالإسلام، ثقافة جماعية، تكرس وحدة وجماعية الإنتاج والممارسة.

من الأنشطة الثقافية العيدية التي تسبق وتتزامن وتتواصل مع أيام الحج والعيد وفعالياته المختلفة، إقامة معرض المصاحف المخطوطة في غرب البلقان، في قلب سراييفو العتيقة، وتحديدا في المبنى المجاور لمدرسة الغازي خسرف بك، والمقابلة للمسجد الكبير الذي يعرف بنفس الاسم. كان الجو مهيبا، يهز الوجدان، إذ إنه يذكر بعهود العز في زمن الانكسارات. مصاحف مذهبة، وأخرى معروضة مع أغلفتها من الفضة الخالصة، وثالثة مكتوبة بألوان وخطوط مختلفة، وجميعها مكتوبة بأياد ماهرة دون أي تدخل من الآلة، مما يجعل منها تحفا قدسية نادرة.

وقال حسين بوبار، المشرف على المعرض، والمسؤول بمكتبة الغازي خسرف بك عن ترميم وحفظ المخطوطات لـ«الشرق الأوسط» مشيرا إلى مصحف بغلاف فضي، لا يزال يلمع بعنفوان «هذا المصحف كان يوضع على أعلام الجيوش، والله وحده يعلم كم معركة شهدها، وكم شهيدا، ومقاتلا، رفع العلم الذي كان يعلوه هذا المصحف الشريف».

وتابع «الإسلام دين عظيم، وهو دين التوحيد الخالص الذي لا تشوبه شائبة الشرك، والقرآن الكريم له موقع مركزي في هذا الدين الحق، فمنه نستمد تعاليم المولى عز وجل، وهي تعاليم أزلية وأبدية، مقدس بحروفه وكلماته وآياته، كتابة ونطقا، إنه العهد الأخير والوحي الأخير، الذي تعهد الله بحفظه، ولم يتعهد بحفظ أي كتاب آخر سبقه، وهذا مصدر اهتمام المسلمين بالقرآن الكريم». وأردف «القرآن الكريم هو الرسالة الخاتمة، التي تصحح مسار الإنسان المادي والروحي في كدحه إلى الله، حتى يعبد الله على بصيرة، وبالطريقة الصحيحة التي أمر بها، بعيدا عن التطرف والأهواء والانسلاخ، فالإنسان لم يوجد في الأرض عبثا، ولا بد من عدالة عليا لا تنجرف نحو العنصرية، أو الحسابات الطائفية، أو الحزبية أو غيرها، فيوم القيامة واجب الوجود عقلا، والعمل له لا يكون صحيحا سوى عبر هذا الكتاب، ولهذا كان الاهتمام به كبيرا عبر التاريخ، وفي هذا الاتجاه يأتي هذا المعرض، قال تعالى: وإنه لذكر لك ولقومك».

وعن تاريخ المصاحف المكتوبة باليد وما تمثله من كنز تاريخي وثقافي كبير قال «عامل المسلمون القرآن بقدسية مطلقة تنم عن إيمانهم الذي غير الجبال وهزها في أكثر من حقبة تاريخية، فقد كان القرآن الكريم يكتب باليد ولا يزال، ومنذ اكتشاف الطباعة أصبح يطبع في المطابع بعد كتابته باليد، ولا تزال مسابقات كتابة المصحف تقام هنا وهناك في العالم، والذين ينسخون القرآن باليد يكون حبهم للقرآن وإيمانهم بالقرآن وعلمهم بالقرآن وحرفيتهم في الكتابة والنسخ ممزوجة مع حروف وكلمات القرآن، لهذا نحن لدينا اليوم كم هائل من الكنوز والتحف المميزة فهي تحف من حيث الشكل ولكن فعاليتها وقيمتها المادية والمعنوية ودورها لا يزال مستمرا بعون الله».

لقد كان للعثمانيين دور كبير في نشر العلم بالقرآن، بما في ذلك فن الخط العربي، وأصنافه، «دخول البوسنة ومنطقة غرب البلقان تحت لواء الخلافة العثمانية، جلب الخير العميم للمنطقة، ومنه الخير الثقافي متمثلا في فن الخط العربي وأصنافه، وبرز العديد من الخطاطين من أصول المنطقة بعضهم بقي هنا وبعضهم هاجر إلى أرض الله الواسعة، وتعد سراييفو، من حواضر الإسلام الزاهرة كما كانت بخارى، والقاهرة، وبغداد، ودمشق، واسطنبول، والزيتونة، والقيروان.

لقد وصل الخطاطون في غرب البلقان، ولا سيما في البوسنة، إلى قمة الاحتراف، ويعد تراثهم من أرقى ما تركه سلف هذه الأمة لنا وللأجيال القادمة «هناك الكثير من الخطاطين البوسنيين الذين تركوا بصماتهم على فن الخط العربي وعلى تراثنا عموما ومنه فن التجليد والتذهيب، وفي سراييفو كان هناك شارعان يطلق عليهما شارع الجلادين الكبير، وشارع الجلادين الصغير، ومن أشهر الخطاطين البوسنيين مصطفى بلفلياك، وجمال الدين الاستربادي، والشيخ شريف أفندي، وقد توفي في تسعينات القرن الماضي، وغيرهم».

وقال أحد المهتمين بالتراث الثقافي والفن الإسلامي في غرب البلقان سامردوريتش «من يصدق أن في القرن الرابع عشر الميلادي كان هناك من يكتب مصاحف الجيب بخط اليد» وكان عدد من مصاحف الجيب حاضرة بشكل لافت في المعرض «الأمر الذي يدل على أن الشغف والحب اللا محدود للقرآن الكريم، كان مسيطرا على الجميع؛ مهنيين، ومستفيدين من إبداعاتهم الخالدة» وكان من بين تلك المصاحف التي خطت في القرن السادس عشر، مصحف بخط «جمال الدين، الفضل الحافظ الاستربادي، في أول العشر من جمادى الأولى 919 هجرية الموافق لـ 24 يوليو إلى 4 أغسطس 1513 م» أي إن ذلك الخطاط أكمل نسخ المصحف الشريف في أقل من أسبوعين. وهناك مصاحف تعود لقرون خلت، ولم يتمكن من تحديد تاريخها إلا بالعودة للمقاربات التاريخية، والمختبرات التحليلية.

زار المعرض العديد من السياسيين، الدبلوماسيين، وأساطين الثقافة بالمنطقة، والطلبة وعموم الناس.