مطعم لبناني.. «مغناطيس» يجذب الأجانب في كابل الجديدة

كامل حمادة لـ «الشرق الأوسط»: أعشق المغامرة.. وطالبان ليس لديها خصومة مع «الحمص» و«التبولة» و«البابا غنوج»

المطاعم الأفغانية التقليدية في شارع شهرانو بوسط العاصمة كابل ما زالت تجتذب الاجانب من زوار أفغانستان («الشرق الأوسط»)
TT

لقد تغيرت أفغانستان كثيرا منذ سقوط نظام طالبان عام 2001. فقد أقيمت ثاني انتخابات تشريعية ديمقراطية في البلاد. كما تمكنت النساء في بعض المناطق من التحرر من البرقع بعد سنوات أمضتها في شبه سجن داخل منازلهن. أما الآن فقد اكتسبن حرية التجول في الخارج من دون رفقة رجل من العائلة. كما اكتسبن حق التصويت والعمل وحتى القيادة.

والطريقة التي تختار بها الدول المختلفة وصف مشاركتها في أفغانستان، سواء كانت «بالحرب» أو «إعادة الأعمار» أو «بناء الدولة» تقدم لنا نظرة متعمقة لتوقعاتها، ومدى التزامها بالبقاء في أفغانستان. وربما تكمن هنا إحدى وسائل فهم أساليب السياسات المختلفة التي ينفذها الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة تجاه أفغانستان.

وداخل العاصمة كابل صار الأفغان يعيشون بحرية وظروف الحياة المعيشية تحسنت في مختلف المناطق، وداخل أشهر مطاعم العاصمة الأفغانية، وهو مطعم لبناني اسمه «تافرنا دي لوبان» لمالكه رجل الأعمال كامل حمادة من منطقة الشوف بعقلين في بيروت. والمطعم على بعد أمتار من فندق «هيتال بلازا» الذي يملكه نجل البروفسور برهان الدين رباني، رئيس حكومة المجاهدين الأسبق رئيس لجنة المصالحة حاليا, ومطعم «تافرنا» بات معروفا بين سائقي التاكسي الأفغانيين، ويكفي أن تقول للسائق «تافرنا دي لوبان» أو تافرنا وزير أكبر خان، أي الحي الذي يوجد فيه المطعم, أو مطعم كامل حمادة.

والمطعم يتميز بنكهة خاصة فهو أشبه بمغناطيس يجذب الغربيين من موظفي الوكالات والمنظمات الدولية كل ليلة, وعلى أبوابه عدد من الحراس الأشداء جاهزون بالكلاشنيكوف لصد أي اعتداء, الذين قال كامل حمادة، صاحب المطعم لـ«الشرق الأوسط»، إنهم هدية خاصة من وزير الدفاع الأفغاني عبد الرحيم ورداك.

وكامل حمادة مثل المكوك لا يتوقف عن الترحيب بزبائنه الأجانب من موظفي المنظمات الدولية وغير الحكومية ورجال الأمن الغربيين والأفغان، وهو خريج قانون من بيروت، بشوش للغاية، يتحدث أكثر من لغة. وبدلا من روب المحاماة، فإنه يرسم ابتسامة عريضة على وجهه، وهو يشعر كل زبون في المطعم بأنه في منزله، بل إنه ابتكر أمورا باتت تتحدث عنها العاصمة كابل، فهو يقدم لكل طاولة شوربة عدس وطبقا من المناقيش أو الفتوش أو الفاكهة أو عصائر فاكهة الرمان التي تشتهر بها أفغانستان أو «الشيشة» , وبدلا من الماء يضع حليبا طازجا، حتى يكون التدخين أكثر يسرا، على حساب صاحب المحل. وقائمة الطعام فيها أسعار بالعملة الأفغانية, أما فاتورة الحساب فهي على النقيض حيث تجيء بالدولار، عملة العالم الجديد, والأسعار تشبه إلى حد ما أسعار لندن وباريس.

وترحيب كامل حمادة بزبائنه يبدأ من على البوابة الخارجية لمطعمه في حي وزير أكبر خان، وهو مقر السفارات الغربية، وكان أيام طالبان سكنا لقيادات «القاعدة»، وترحيب صاحب المطعم بزبائنه يقلل كثيرا من تأثير الحراس الأشداء المدججين بالكلاشنيكوف حول المطعم. كامل حمادة افتتح مطعمه قبل سبع سنوات في كابل، وهو من عشاق الأماكن الخطرة، ويضحك كثيرا وهو يجيب عن سؤال لـ«الشرق الأوسط» عن تخوفه من «القاعدة» أو طالبان التي تهاجم قصر كرزاي غير البعيد عنه بالصواريخ، أو يقتحم عناصرها فندق «سرينا» الفخم، بقوله: إن العاصمة كابل أكثر أمنا من بيروت خلال سنوات الحرب الأهلية. وقال طالبان ليست على عداوة مع «الحمص» و«التبولة» و«المناقيش». ويعمل حمادة في المطعم مع كبير طهاة لبناني يشرف على المطبخ سبعة أيام في الأسبوع من الحادية عشرة صباحا حتى منتصف الليل من دون توقف، استجابة لرغبة زبائنه من علية القوم الأفغان وموظفي المؤسسات الدولية الغربيين. وكثيرا ما يدخل المطبخ بنفسه ليشرف على إعداد الطعام. وأسأله عما يميز مطعمه عن المطاعم الشرقية الأخرى مثل المطعم الإيراني أو مطعم إسطنبول، فيقول: المواظبة والمثابرة والكرم مع الزبائن. وعن المطاعم اللبنانية الأخرى في كابل، قال: بصراحة هي ليست مطاعم لبنانية. ويضيف: إن زبائني في المطعم يشعرون بأنهم في منزلهم، وهم أيضا يستمتعون بالطعام اللبناني.

ويعترف حمادة بأنه تلقى كل الدعم من القائمين على وزارتي السياحة والداخلية الأفغانيتين. وحمادة جرب حظه في المطاعم من قبل في أوكرانيا وكان موفقا، وعندما بدأت الحرب تستعر في أفغانستان شعر بأن كابل هي ملجأه لأنه يعشق الأماكن الخطرة، وأوضح أن زوجته وابنتيه يتصلان من بيروت للاطمئنان عليه، كلما سمعن في نشرة الأخبار عن تفجير انتحاري لطالبان أو عملية إرهابية في شوارع كابل، ولكن الله الذي يؤمن به هو الحارس، في أحلك الظروف.

وديكور التافرنا اللبناني بسيط ومحبب إلى القلب من دون تعقيدات وهو من تصميم كامل حمادة. وفي مدخل المطعم سجادة أفغانية فخمة معلقة على الحائط، وأسفلها طاولة عليها إبريق نحاسي ضخم، مما كان يستخدم في العصرين المملوكي والعثماني في غسل يد الضيوف بعد تناول الطعام. ويقول ضاحكا: إنه رفع العلم اللبناني من على واجهة المطعم، «لأن الأفغان والأجانب كانوا يعتقدون أنه القنصلية اللبنانية».

وعموما مطاعم كابل الشعبية التي زرت بعضا منها، مثل مطعم صوفي بالقرب من مطعم هراة على مشارف شارع شهرانو يميزها الديكور الأفغاني الأصيل من سجاجيد فخمة موضوعة على الأرائك، وجلسات فوق السجاجيد ومراتب على الأرض. ومطعم صوفي يقدم الأطباق التقليدية الأفغانية مثل الكباب والأرز واللحم الطري والزلابية والعدس على البخار. وهناك مطعم أفغاني حديث افتتح في شارع شهرانو منذ عدة أشهر وهو أشبه بالبوفيه المفتوح يقدم أطباقا متعددة من الأطباق الأفغانية مثل كابلي بلاو والمشاوي الأفغانية.

وتقسم المطاعم الأفغانية مثل مطعم هراة إلى قسمين ظاهرين: غربي وشرقي، هكذا يسمونها. الجناح الغربي مملوء بالكراسي والمناضد، أما الشرقي فالجلوس فيه على الأرض. وتنتشر الطاولات في الخارج على العشب وتوضع فوقها الأغطية البيضاء والأطباق وراء الجدران العالية والحراس المسلحين. والخمور محظورة في أفغانستان بموجب الدستور الأفغاني إلا أنه يمكن للمطاعم أن تحصل على رخصة بيع الكحول للأجانب. ومن المحتمل أن تؤدي المنطقة القانونية الرمادية إلى قيام مسؤولي الشرطة بشن هجمات على المطعم، متذرعين بحجة أن الكحول يقدم للأفغانيين.

وفي المطاعم الأفغانية الشعبية، كل شخص في الكادر دوره الذي لا يتجاوز فيه على الآخرين. فالذي يستلم الحجز هو الذي يأتي بالأكل، وهناك مسؤول عن الشاي الأخضر وآخر عن الأرز باللبن ورابع عن السكر وخامس عن تنظيف المائدة وإزالة الصحون، وسادس يدور حول الموائد ليصرخ بالطلبات، أما السابع فهو الذي يستلم منك حزم الأفغاني (فلوسهم) ويعطيك فاتورة، إذا طلبتها ويختمها ويوقعها لزوم مسؤولي الحسابات في لندن.

ووجد كامل حمادة صعوبة كبيرة في تدريب النزلاء الأفغان على التعامل مع متطلبات الصحة وغسل اليدين جيدا قبل تقديم الطعام، ويأمل أن يكون لديه جرسونات لبنانيون، ويضيف أنهم مثل خريجي الأكاديميات العسكرية في الالتزام، ولهم قدرة خاصة على الترحيب بالزبائن. ومن الصعب اليوم إيجاد طهاة أفغانيين بعد عقود من الحرب والتهجير والنزوح. فقد انتقل الناس من مكان لآخر وضاعت وصفات المأكولات واختفت المكونات من السوق. ويقول صاحب «تافرنا دي لوبان»: إن كثيرا من المكونات الغذائية لا يجدها في السوق الأفغانية مثل البهارات وبعض أنواع اللحوم يستوردها من دبي أو من بيروت. وهناك مطاعم أفغانية كانت قبلة للصحافيين والمراسلين الأجانب منذ عهد الحركة الأصولية، مثل مطعم هراة الذي يعمل حتى اليوم، ويستقطب زوارا من العرب والأفغان والأجانب، وهو يقدم المشويات إلى جانب الأرز الكابلي والخبز الذي يعرف باسم «نان». وفي مطعم هراة بوسط كابل الذي أسسه أحد كبار المجاهدين من مدينة هراة، كان الحديث يدور حول هموم السياسة، حيث جلس رجال على سجاجيد عشية الانتخابات لتناول الأرز ولحم الأغنام من صوانٍ معدنية براقة. وقال محمد حنيف (33 عاما)، وهو مدرس ابتدائي، وهو يطلق ضحكة «سأعطي صوتي لكرزاي. هؤلاء الناس جيوبهم ممتلئة بالفعل. إذا صوتنا لأحد جديد سيأتون بجيوبهم فارغة وحتى تمتلئ جيوبهم سيجعلون حياتنا بائسة».

ومطاعم كابل الجديدة تقدم اليوم البيتزا والهمبورغر والإسكالوب والأستيك الأميركي والماكاروني بولونيز الإيطالي ومقاهي الإكسبريسو والكابتشينو وشيشة التفاحتين، وموظفات المنظمات الدولية الأجنبيات يجلسن باسترخاء في حدائق المطاعم يدخن الشيشة بعد نهار عمل طويل، وتقدم المطاعم أيضا عصائر الجزر والموز باللبن والشيبسي والمناقيش الموجودة داخل المراكز التجارية والمولات الحديثة، وتستعد مطاعم «ماكدونالدز» للحصول على تأشيرة دخول إلى العاصمة الأفغانية، بعد أن حصلت سلسلة مطاعم «بيرغر كنغ» على أول رخصة لها داخل قاعدة باغرام، وفي قاعدة قندهار العسكرية الأميركية. وهناك مطاعم برخصة أفغانية مثل «تشيف برغر»، و«إف سي» و«كي إف سي»، ولكنها ليست واحدة من سلسلة «كنتاكي فرايد تشيكن» العالمية، بل اختصار «مركز كابل للطعام»، أي إنه تلاعب لفظي لجذب الزبائن، وهناك ديسكو داخل محيط مقرات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية. وفي المطاعم التي زارتها «الشرق الأوسط» يقدمون الخمور للأجانب فقط، وليس للأفغان، بموجب اتفاق مع وزارة الداخلية الأفغانية. وتنتشر المطاعم اللبنانية والهندية والفرنسية والتركية , وهناك مطعم إسطنبول في ضاحية ماكريان الشعبية التي بناها الروس. والعاملون في مطعم إسطنبول لا يعرفون إلا القليل جدا من اللغة التركية, وكابل تعج اليوم بالعاملين في مجال التنمية والإغاثة، إضافة إلى جنود قوات الإيساف التي تقودها الولايات المتحدة، للوهلة الأولى، عندما تقصد مطعما لا تلاحظ أي علامة عن المطعم وهو عبارة عن فيللا سكنية، ومن باب صغير الحجم تدلف إلى الداخل، وهناك الحدائق الجميلة ونانسي عجرم وراغب علامة وأم كلثوم يصدحون في المطعم اللبناني. وفي أحد المطاعم الغربية بوسط العاصمة الأفغانية فجأة تعالت صيحات فرحة لمجموعة من الشباب والفتيات فرنسيي الجنسية، الذين قدموا للمطعم، وكأنهم يدخلون واحة غناء وسط الصحراء المقفرة، وما مرت دقائق قليلة حتى اشتعلت الموسيقى العربية والتركية والإنجليزية، وامتلأت الساحة بالراقصين يهزون أجسادهم ويغنون بصوت عال، لقد كانت صدمة غريبة من نوعها فتوقعي لكابل، كما نشاهد، أنها المدنية المتوترة ليل نهار، وعلينا أن نحتاط أمنيا من عيون طالبان إلى أبعد الحدود، ولكن على ما يبدو فإن الصورة مختلفة في إحدى زواياها، فكابل هي عالمان، واحد للأجانب تقدم لهم أنواع الترفيه وآخر للفقراء تقدم لهم أنواع الإحباط والسخط على الحياة هنا.

وتترك كابل بلا استحياء اليوم، تعاليم الملا عمر المتشددة والعمائم السوداء واللحى التي لا يقل طولها عن قبضتين، إلى أغاني الروك آند رول، والأفلام الأميركية والهندية التي تكتسح ساحات العاصمة الأفغانية عبر الدش وأقراص الـ«دي في دي»، في محلات بيع شرائط الفيديو، وفي أحد تلك المحلات المتخصصة في منطقة شهرانو بوسط كابل، كانت الأقراص المدمجة «المقلدة» لأفلام كاميرون دياز ودنزيل واشنطن وبراد بيت وميشيل فايفر وجيم كاري وآندي غارسيا وجوليا روبرتس، تنتشر إلى جانب أفلام الممثل الأفغاني حشمت خان. وتزدحم العاصمة الأفغانية بآلاف السيارات الحديثة والماركات المشهورة القادمة من دبي وأوروبا وأميركا، على الرغم من الحظر الأمني، وهناك حركة ومطاعم تحمل علامات جديدة تفتح الباب لعصر جديد لكابل يتزين بالشارات الأميركية والنكهة الأوروبية، وينفق الغربيون بسخاء شديد، وينافسهم موظفو هيئات الإغاثة الدولية، الذين يحصلون على رواتب خيالية، لكن الشوارع اليوم مزدحمة للغاية، ممتلئة بالحفر والمياه الآسنة.

وكما يقول الكولونيل حياة سلام لـ«الشرق الأوسط»، وهو ضابط طاجيكي كان من المقربين لأحمد شاه مسعود قائد التحالف الشمالي الذي اغتالته «القاعدة» قبل يومين من هجمات سبتمبر (أيلول): إن العاصمة كابل بنيت لاستضافة 400 ألف أفغاني، إلا أنها اليوم تسع بالكاد خمسة ملايين أفغاني وزائر أجنبي. ويشكو أهل كابل من أن المعونات السخية، التي ترسلها الدول المانحة بالملايين من الدولارات، تذهب إلى جيوب موظفي شركات الحراسة الخاصة، وخبراء الشركات الدولية، ورجال الحكومة، وتتدفق هذه الأموال على سوق كابل، فتنشط عادات جديدة جاءت مع القادمين من أوروبا وأميركا، وهناك مطاعم تصل إليها عبر ممرات خاصة، تحميها الشرطة وشركات الأمن، ومطاعم أخرى تبدو وكأنها كالخنادق، محفورة في باطن الأرض، بعيدا عن عيون الفضوليين من المتطرفين.