الجالية اليونانية.. رائحة خاصة في تاريخ مصر

عملوا في مجالات البقالة والمطاعم والمقاهي.. ومنهم خرج كفافيس شاعر الإسكندرية

أفراد من الجالية اليونانية يؤدون رقصات فلكلورية («الشرق الأوسط»)
TT

على الرغم من توافد الجاليات الأجنبية على مصر في عصور وحقب زمنية مختلفة، فإن الجالية اليونانية تظل لها رائحة خاصة في التاريخ المصري، فلا تزال ظلال هذه الرائحة تتناثر في شوارع وأزقة ومحال ومقاهي مدينة الإسكندرية، كما تحتفظ الجالية بحضور خاص في العاصمة القاهرة.

فالشاعر اليوناني الشهير كونستنتين كفافيس، عرف عنه هيامه بالإسكندرية، فقد ولد ومات فيها؛ بل ولقب بـ«شاعر الإسكندرية»، وكذلك بيريكليس مونيوديس الذي كتب عن بقايا اليونانية في المدينة، وجيورجيوس سيفيريس الذي فتنه قمر الإسكندرية، والشاعرة أفيجيني بينزوده التي ناجت الإسكندرية وكفاح أهلها، وكتبت عنها إليزابيث تسارس 16 كتابا تمجد تاريخها عبر السنين، ولعل أفضل تعبير عن التأثير اليوناني في مصر ما قاله فورستر: «على حافة البحر واليابس، توسطت المدينة بين المتناقضات، بين مصر واليونان اللتين لا تميل كلتاهما إلى البساطة».

حكاية اليونانيين بدأت منذ أواخر القرن الـ18 وازداد وجودهم في ظل حكم محمد علي باشا، واشتهروا بدأبهم على العمل في التجارة، وعملوا في مختلف الحرف والمهن، حتى إن عددهم بلغ نصف عدد سكان الإسكندرية في عهد الخديوي إسماعيل. وكان عددهم قد بلغ 37 ألف نسمة عام 1882، و56 ألف نسمة عام 1917. وتقلصت أعدادهم بسبب سياسة التأميم في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وهاجر معظم أفراد الجالية التي أقامت بمصر ردحا من الزمن إلى اليونان والبرازيل وكندا وأميركا وأستراليا، وهي المجتمعات التي وفرت لهم مناخا كوزموبوليتانيا يشبه حياتهم في الإسكندرية حيث تعدد اللغات والجنسيات، لكنهم ظلوا مترابطين يعيشون على أمل العودة، فأسسوا روابط واتحادات خاصة بهم بوصفهم مصريي الهوية.

لكن ما لم يكن في الحسبان هو ما تعرضت له اليونان من أزمة اقتصادية ومحاولتها خفض عجز ميزانيتها وما تبعها من خفض المعاشات وتقليص الوظائف مقابل الحصول على دعم مالي كبير من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، مما جعل كثيرا من اليونانيين يخطط جديا للعودة إلى مصر والبحث عن ممتلكاته والاستقرار مرة أخرى فيها.

أما أعضاء الجالية الذين لم يغادروا مصر فهم منغلقين تماما على أنفسهم، يرحبون على استحياء بالصداقات والعلاقات مع المصريين، وعلى الرغم من ذلك، فإنهم يرفضون مغادرة الإسكندرية، ويبلغ عدد أعضاء الجالية حاليا نحو 4 آلاف يوناني، ما بين يونانيين مصريين ويونانيين وافدين، منهم المعلمون والطلبة الدارسون في الجامعات المصرية أو المختصون في الآثار، وهم يتبعون البطريركية الأرثوذكسية اليونانية، وهي الكنيسة الأم في عموم أفريقيا، وواحدة من أقدم البطريركيات في العالم.

ويرأس الجالية اليونانية بالإسكندرية حاليا إدموندو كاسيماتيس، وهو صاحب محلات «مينرفا» الشهيرة بمحطة الرمل، الذي ورث المحل عن أجداده منذ أكثر من 100 عام، وهو مقيم بالإسكندرية مع أبناء عمومته وأولادهم الذين يديرون أيضا عددا من المطاعم والمقاهي بالإسكندرية.

ويعتبر اليونانيون من أكثر الجاليات التي تم تجسيدها في أهم أفلام السينما المصرية القديمة، فنادرا ما يخلو فيلم من خواجه يوناني سواء صاحب مطعم أو حانة أو نادل أو ترزي أو خياطة أو صاحبة بانسيون.

ويروي المهندس ميشال أرسناليدس، صاحب سينما «أوديون» بالإسكندرية، ذكرياته مع المدينة، قائلا: «كانت الحياة مختلفة كثيرا عن الوضع الحالي، كانت الإسكندرية فعلا كالحلم، تحفل بالمسارح ودور العرض، وقد ورثت عن والدي السينما، وأتذكر يوم افتتاحها في سبتمبر (أيلول) 1953 حيث كنا نعرض فيلميين؛ مصري وهندي أو مصري وأوروبي، بعد ذلك أصبحت السينما درجة أولى وأصبحنا نعرض فيلما واحدا يكون أميركانيا، لأنها غزت عالم السينما في التسعينات، أما الأفلام اليونانية فكان يتم تصويرها في مصر قبل الحرب». ويستطرد بحسرة: «الجالية اليونانية من أكثر الجاليات تنظيما، حيث إنها أسست جمعيات وهيئات مستقرة حتى قبل نشأة الدولة اليونانية الحديثة، وكان نشاطها فعالا، فكانت هناك أندية رياضية منتشرة في كل أنحاء مصر، ومهرجانات ومعارض وحفلات خيرية، ومسارح ومستشفيات تعالج جميع الجنسيات من دون تمييز، ومدارس ومطبوعات وصحف وأهمها: (أريفي) و(إيمونيا)». ويؤكد: «لم نكن نشعر بأننا أجانب أو أغراب عن المصريين، وحاليا ينتابني هذا الشعور أحيانا فقد تقلصت الجاليات الأوروبية، وبالتالي أصبحت ملامحنا غريبة على المصريين».

أما الباحث اليوناني هيراكليتوس سويولتزوغلو، المهتم بتاريخ اليونانيين في الإسكندرية، فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «من خلال بحثي في أثر الجالية اليونانية بمصر، وجدت أن الجيل الثالث لا يزال متمسكا بوجوده وانتمائه المصري اليوناني، ولديهم حياة اجتماعية، ولكنها لم تعد واضحة نوعا ما، عدا بعض أنشطة الجالية الثقافية، أما الجيل الرابع فهو يتجه أكثر للإقامة باليونان، لكن الأوضاع الاقتصادية السيئة التي تعيشها اليونان حاليا، جعلت كثيرا من الشباب، خاصة من أبناء الجالية اليونانية في مصر يرغبون في العودة مرة أخرى إلى الإسكندرية، حتى أنني أفكر جديا في الاستقرار بها بعد الانتهاء من رسالة الدكتوراه».

ويؤكد هيراكليتوس على أن الإسكندرية لا تزال مكانتها محفورة في قلوب اليونانيين المصريين، خاصة السكندريين منهم، وأن هناك نوادي خاصة بهم ويحرصون فيها على تجديد ذكرياتهم عن إسكندريتهم، وكثير من اليونانيين يستقبل كل من يأتي من الإسكندرية بلهفة شديدة ليسألونه عن أحوال المدينة وما حل بها، أو يتابعون أخبار أقارب وأصدقاء وجيران». ويضيف: «بالطبع الإسكندرية التي تحدث عنها داريل أو فورستر أو مايكل هاج وجدتها مختلفة تماما، والشيء الذي أحزنني أنها بدأت تفقدت حتى طابعها المصري، فأصبح نظام الحياة الأميركي يسيطر على كل شيء، لكنني أرى أنها لا تزال كوزموبوليتانية نوعا ما، ففي الشارع يمكن أن نجد يونانيا وأرمنيا وإيطاليا وغيرهم، وفي اعتقادي أن المصريين هم أقرب الشعوب إلى اليونانيين، وكذلك أرى ترحيبا وحفاوة شديدة من المصريين عندما يعرفون أنني يوناني، وأرى التاريخ اليوناني المصري المشترك أثر نوعا ما في هذه المسألة، فهناك كثير من الكتب كتبها أفراد من الجالية اليونانية التي كانت تعيش هنا، بعد عودتهم لليونان، كذلك هناك كثير منهم ممن صوروا أفلاما وثائقية تسجل الحياة الكوزموبوليتانية».

وتقول ماري كافاروس، وهي سكندرية المولد وتعمل بالقنصلية اليونانية، إن «نشاط اليونانيين بالإسكندرية بدأ عام 1843 حينما أسسوا أول جمعية لهم خارج اليونان هنا، ثم تأسست الجمعية اليونانية بالقاهرة 1856، بعدها أصبح هناك أكثر من 32 جالية يونانية في مختلف أنحاء مصر مثل طنطا وبورسعيد والمنصورة والسويس وكفر الزيات، وأسسوا كثيرا من البنوك والشركات؛ منها شركات القطن والسجائر والزجاج والمشروبات الروحية وصناعة الورق والإسفنج وغيرها. وكان لهم السبق في إنشاء الأسواق التجارية ومنها سوق أسسه اليوناني سوارس في المناصرة بالقاهرة، كما أسسوا بورصة الأوراق المالية عام 1910 بالإسكندرية».

وتشير كافاروس إلى اهتمام الجالية بالتعليم وإتاحته للجميع، فأول مدرسة أنشئت كانت بالإسكندرية عام 1843 وهي مدرسة «توسيستا» نسبة لمؤسسها ميشال توسيستا، وكانت هناك مدارس أخرى كثيرة؛ منها «زرفوداكي وفاميليا» و«أفيروف للبنات»، و«سلفاجو ولاكوداكيس»، وهي تخضع لإشراف الحكومة اليونانية.

وحول دور المركز الثقافي اليوناني بالإسكندرية، يقول مانوليس مارانجوليس، مدير المؤسسة الثقافية اليونانية بالإسكندرية: «المركز حديث نسبيا وأنشئ عام 1984 ومقره بالمبنى الكلاسيكي الذي كان معروفا في ما مضى بمدرسة (أفيروف) للفتيات، التي احتفلنا بمئويتها منذ وقت قريب، ويضم المركز مكتبة للجمهور تحتوي على كتب يونانية وعربية وترجمات من اللغتين، وقاعات للمعارض الفنية، ويشهد المركز إقبالا من المصريين لتعلم اللغة اليونانية والعكس من اليونانيين، كما نحرص دوما على إقامة فعاليات وأمسيات ثقافية وفنية تعكس مدى التناغم والتداخل بين الحضارتين المصرية واليونانية، وهي تلاقي إقبالا من المصريين واليونانيين على السواء».

أما فاسيليس داتسيوديس، وهو أيضا باحث يوناني مهتم بأثر الحضارة اليونانية في مصر، فيقول: «لطالما درست كل ما يتعلق بالإسكندرية، لكنني حينما جئت إليها شعرت فيها بذلك السحر الخاص الذي قرأت عنه، فهي مدينة تغوي كل من يأتي إليها ليبحث عن أسرارها الغامضة، وحينما حان موعد مغادرتي لم أقْوَ على ذلك الفراق فاتخذت قرارا بالعيش فيها طوال حياتي».

أما باتريك باراسكيباس، وهو يوناني سكندري عمره 61 عاما، فيقول: «كانت الإسكندرية مدينة رومانسية بامتياز، وكانت حياتنا كشباب حافلة بالمغامرات العاطفية، كنا نعرف كيف نعيش ونحتفل؛ سواء كنا يونانيين أو إيطاليين أو أرمن أو مصريين، فكان في يوم شم النسيم يقام حفل صاخب في كازينو (سان ستيفانو) القديم، وكنا ننزل البحر ثم نخرج لنأخذ حمام الشمس في الطابق العلوي، وتعلو أصوات الموسيقى والرومبا والروك آند رول والتويست والتشاتشا، أما احتفال الكريسماس فكان في النادي اليوناني في الشاطبي، وكانت الإسكندرية قبل تطويرها مليئة بالبلاجات التي تناسب الجميع، وكانت الكبائن تتنافس في تصميماتها من الشاطبي وحتى سيدي بشر، فكان منها ما يشبه السفينة ومنها ما يشبه الأكواخ. وفي الخمسينات كان المصيف المفضل لنا في المكس والعجمي وأبو قير. وكان هناك مهرجان الربيع، وكانت الإسكندرية تشهد مواكب الزهور التي تسير على الكورنيش ويتم اختيار ملكة جمال الزهور من الشابات».

وتقول منى مظهر، وهي مصرية في العشرينات من عمرها: «الثقافة اليونانية كان لها أثر كبير في الإسكندرية، والدليل أن والدتي وهي مصرية لا تزال تحرص على تناول حلوى (الفينيكيا) اليونانية الشهيرة، كما كانت تفعل مع جيرانها اليونانيين، الذين يقومون بزيارتنا كل سنة أثناء زيارتهم السنوية للإسكندرية». وتعتبر منطقة الشاطبي من أكثر المناطق التي يوجد بها الأثر اليوناني، حيث يوجد ما يسمى «المربع اليوناني» وبه المقابر والمدارس اليونانية ونادي «سوتر» الرياضي والقنصلية اليونانية، وهناك كثير من المنشآت اليونانية موجودة حاليا بالإسكندرية ومنها ملجأ «بيناكي» وملجأ «مانا» في الشاطبي، وهي خاصة باليونانيين فقط، سواء كانوا الوافدين للدراسة أو المسنين من المصريين اليونانيين، أما نادي اليخت اليوناني البحري الذي أنشئ عام 1909 فهو مفتوح لجميع الجنسيات، كذلك نادي الكشافة البحرية بمنطقة بحري، هذا فضلا عن وجود كثير من المحال والمطاعم والأفران بأسمائها اليونانية التي أصبحت معالم مميزة لعروس البحر المتوسط، فلا يخلو برنامج ترفيهي سياحي من زيارتها، ومنها «زفريون»، و«زفير» وهي مطاعم أسماك، و«بترو» الذي تهدم، وحلواني «خاموس»، و«ديليس» و«تريانون» و«بودرو» و«سانتا لوتشيا» و«إيليت» و«لورانتوس» و«أستريا» و«ألكسندرا خاموس»، وغيرها.

هذا فضلا عن المتحف اليوناني الروماني، ومتحف الشاعر كفافيس، وحديقة أنطونيادس وهي حديقة تضم قصر البارون اليوناني أنطونيادس.

وتستعيد الإسكندرية روحها اليونانية من خلال بعض الاحتفالات الدولية التي تحتضنها، أو الفعاليات الثقافية اليونانية التي يقدم خلالها أبناء الجالية كثيرا من الرقصات اليونانية الشهيرة وسط شغف وحنين أهل الإسكندرية لماض ولى على أمل عودته من جديد.