«الثواني الـ15 الأخيرة» من حياة صاحب فيلم «الرسالة»

المخرج مصطفى العقاد ينهض حيا ويقول لقاتله: «أنت عدو الله ورسوله»

مشهد من المسرحية يظهر فيه العقاد على سجادة الصلاة وخلفه زوجته
TT

المخرج السوري مصطفى العقاد على المسرح يحاور قاتله بعد 5 سنوات من اغتياله. هذا الحوار قد يبدو سورياليا للبعض ولا يستحق المشاهدة، لكن المخرج مجدي بومطر استطاع أن يجعل من هذه الفرضية موضوعا لعمل مسرحي ممتع ومحكم. وعلى عكس ما يمكن أن يتصوره البعض فإن التراجيديا التي شهدتها مدينة عمان عام 2005 عندما قام انتحاريون بتفجيرات، أصابت 3 فنادق دفعة واحدة، وأودى أحدها بحياة المخرج مصطفى العقاد وابنته ريما نراها على المسرح، بحلة يختلط فيها الجد بالهزل، والحقيقي بالخيالي، والماضي بالحاضر، كما تندغم الحوارات بالرقص والغناء. خلطة فنية كان يمكن لها أن تكون مربكة لكنها تقدم ببساطة ذكية، يتم فيها اللعب على الزمن تقديما وتأخيرا، بما يتيح لقاءات غريبة بين أشخاص، يصعب أن نتصور أي لقاء بينهم في الواقع.

تبدأ المسرحية بمشهد المرأة الانتحارية ساجدة التي رأيناها جميعا على الشاشات وعرفنا أنها توجهت مع زوجها رواد من العراق إلى الأردن لتنفيذ العملية فقضى هو وبقيت هي على قيد الحياة. ننتقل إلى مشهد الانفجار الذي وقع في أحد فنادق عمان، حيث كان يقام عرس هناك، ومصطفى العقاد على موعد للالتقاء بابنته ريما في المكان نفسه. في هذه اللحظة تدخل العروس ونرى العقاد وابنته كلا منهما يتجه لمعانقة الآخر، فيما يقف الانتحاري رواد بحزامه الناسف وسط المسرح، وتحدث المأساة التي بات الجميع يعرفها. الموت يحدث بطيئا والأجساد تتماوج لتهوي كأنها مغناطيسية الحركة وهي تنتقل إلى العالم الآخر.

نعود بالزمن إلى الوراء، نرى العقاد على يمين المسرح يقدم عائلته للجمهور ابنته وزوجته وأمه، رواد الانتحاري على يسار المسرح، يقدم أيضا عائلته المكونة من زوجته وأمه وجدته. طوال ساعة وربع نجد أنفسنا ننتقل بين عائلتين. وترتحل بنا المشاهد سريعا من الأردن إلى العراق حيث عائلة الانتحاري رواد التي نتعرف عليها رويدا رويدا، ومن ثم إلى سورية حيث عائلة العقاد التي نزورها بين الحين والآخر، وهناك أيضا نيويورك حيث عاش العقاد حياته مع زوجته وابنته.

تداخل في الأماكن المتباعدة يجيده المخرج اللبناني الآتي من كندا مع فرقته المكونة من لبنانيين وكنديين بمهارة عالية. إذ أن قصص العائلتين كما يقدمها بومطر متشابهة رغم اختلافها الشديد. فهو قادر دائما على إيجاد جامع تشترك فيه الشخصيات رغم تباعدها. ثمة نقاط مشتركة بين الجلاد والضحية. العقاد ودعوات أمه التي تلاحقه ووالده الذي يعطيه القرآن بيد و200 دولار في يد أخرى وهو يودعه قبل سفره إلى نيويورك، ورواد محاط بأمه وجدته يتلو القرآن هو الآخر، لكن والده مات قبل أن يراه. التشابه بين عائلتين مسلمتين إحداهما سورية تربي مخرجا عالمي الصيت وأخرى عراقية يخرج منها إرهابي، يبدو في المسرحية كبيرا، لكن ظروف رواد صعبة، يتيم الأب، يحضن نساء العائلة وهو صغير ويسجن مرتين، مرة على يد صدام وأخرى على يد الأميركيين قبل أن يصبح منعزلا، متطرفا، له أفكار تستوحشها أمه. في المقابل العقاد ورواد، كلاهما يصلي، ولهما معتقدات متشابهة، الاثنان تربيا على بطولات صلاح الدين، أحدهما أراده بطلا لفيلمه الذي بقي يحلم به دون أن يستطيع تنفيذه والآخر ظن أنه هو صلاح الدين الذي بمقدوره أن يغير العالم.

التشابه الذي أراده المخرج قويا، جعله يصبح أكثر وضوحا حين يؤدي الممثل الواحد دورين، مرة حين يكون في عائلة العقاد ومرة أخرى من عائلة رواد. التبدل في الصوت واللهجة والسياق هو الذي يتغير. باستثناء دور العقاد الذي لعبه الممثل اللبناني بديع أو شقرا، والانتحاري رواد الذي لعبه بمهارة عالية تريفور كوب، والممثلات الثلاث لعبت كل منهن دورين في وقت واحد، أحدهما في عائلة القاتل والآخر في عائلة القتيل. وليس مصادفة أن تلعب الممثلة بام باتل دور ابنة العقاد والانتحارية التي كانت تود قتلها: ساجدة.

يجوب المشاهد في حياة العقاد، ها هو في حوار مؤثر مع أمه قبل أن يغادر سورية، ثم يصل إلى هوليوود حيث يبدأ عمله على فيلم «هالوين» نراه مع زوجته الأميركية التي يحدثها عن عذابات شعب فلسطين، ثم في مقابلة حوارية تلفزيونية على الطريقة الأميركية. مقاطع حيوية، لا تخلو من طرافة وخفة دم، فيها الغناء والرقص والمزاح، والاتصالات الهاتفية الدائمة بريما التي تتربى في أميركا وتختار رجلا لبنانيا تنتقل إلى مدينته لتعيش بقربه.

تمتزج هذه المشاهد بأخرى من حياة رواد الذي يتلقى الصدمات الواحدة تلو الأخرى، وأخبار موت الجيران والأصدقاء. ثم ها هو يشاهد على التلفزيون أخبار الجيش الأميركي في بلاده. ساجدة التي أحبها وهي أجمل ما في حياته، يعلمها كيف تلبس حزاما ناسفا. هذا المشهد الذي يقارب في سورياليته الجنون ليس وحده الذي ينم عن مفارقات صادمة.

المسرح يبقى عاريا وفارغا إلا من غسيل نشر على شكل أنصاف دوائر متداخلة ليغطي خلفية الخشبة. الغسيل جزء مهم من الأدوات التي يستخدمها المخرج، كما يستعين بكراسي صغيرة، سجادات صلاة، أوان معدنية، طاولة متواضعة الحجم. التقشف لا يمنع من مشهدية يستعان على إغنائها بعروض الفيديو والصور التي تنعكس على الخلفية لتخفي الغسيل المنشور وتعطيه معنى آخر.

حلب، بغداد، هوليوود، أماكن تبدو متداخلة، في زمن اختفت فيه المسافات. لكن الأذكى في المسرحية هو انعدام المسافة بين الموت والحياة، فنحن نرى العقاد وقاتله يتقابلان، يتحادثان، وكأنما هما التقيا على الأرض، ومن هذه المشاهد المتخيلة تلك التي يلعب فيها العقاد دور المخرج للفيلم الذي يصوره رواد قبيل قيامه بالعملية الانتحارية. يشتغل العقاد على رواد كما يفعل مع أي ممثل يحاول تقويم أدائه أمام الكاميرا. في مرات أخرى نعرف أن اللقاء يجري بعد أن أصبح كل منهما في عالم الغياب. يقول القاتل للعقاد حين يسائله عن سوء ما فعل: «أنا شهيد» فيجيبه العقاد: «أنت عدو الله ورسوله» ثم تخرج أم العقاد مفجوعة وهي ترى مقتل ابنها: «يا أمة العرب، شيئا من الغضب... تركونا في العار». لقد كان يحمل أفكارا وطنية ومبادئ إسلامية، «إنه أفضل من صور فيلم عن الرسول» بحسب قول الأم التي لا تفهم سببا لما حصل لابنها.

أكثر من مرة يموت العقاد في هذه المسرحية، وأكثر من مرة يتواجه القاتل والمقتول، في مشاهد مختلفة. في أحد المشاهد يراقص الانتحاري ابنة العقاد ريما التي قتلها بحزامه الناسف هي الأخرى بين من قتلهم، يراقصها على أنغام أغنية أسمهان الشهيرة: «يا حبيبي تعالى الحقني شوف الي جرى لي من حبك». ريما عروس في يوم زفافها بالفستان الأبيض، يتأبط والدها ذراعها وإلى جانبها والدتها وجدتها. تتسمر العائلة وكأنما لتلتقط صورة فوتوغرافية يطل رواد بوجهه وكأنما ليحشر نفسه في هذا المشهد السعيد، تتغير ملامح الوجوه فجأة، لحظات تتبدل خلالها التعابير من الفرح إلى الخوف فالرعب القاتل. فجأة يتناثر المشهد وتقفز الأجساد من مكانها بصوت مكتوم. العقاد يحتضن ابنته وهو يتهاوى وزوجته تحتضن الانتحاري.

فيض من الإنسانية في عمل عرف كيف يكون فنيا حتى الثمالة، ومتخيلا بقدر ما هو واقعي. مؤثر أدمع المتفرجين الذين لم يتمكنوا من كبت انفعالاتهم، رغم حرص المخرج الشديد على عدم إدخال الحاضرين في حالات من الحزن، مستعينا بالموسيقى والتعليقات الطريفة والحيوية في الأداء، مع الحرص على لغة إنجليزية معجونة بنكهة العاميات العربية، خاصة عندما تتحدث والدة أو جدة، دون أن يحرم العمل من بعض المفردات والعبارات المحكية العربية التي تضفي حيوية على أداء ممثلين، أجادوا حتى أبكوا وأضحكوا، طوال ساعة وربع مرت خفيفة سريعة.

متعة بصرية وذكاء في كتابة النص كما احتراف عال في الإخراج، وأداء مميز لممثلين من جنسيات مختلفة بينهم عرب وكنديون. المسرحية قدمت لليلتين، مساء الجمعة والسبت على «مسرح دوار الشمس» في بيروت ضمن جولة في المنطقة تشمل سورية والأردن، بعد عروضها الكندية.