معلمة تأخذ على عاتقها افتتاح مدرسة للغجر بكردستان.. وتؤكد: سنلاحقهم أينما ارتحلوا

استقبلت 89 تلميذا وتدرس منهاج المدارس الابتدائية في الإقليم

طالبة من الغجر (تصوير: جمال بنجويني)
TT

هل آن الأوان لغجر كردستان أن يستقروا في مجمعاتهم السكنية ويتركوا الترحال ما بين مدنها ليكونوا جزءا من المجتمع الكردي الذي يقبل بالتعايش مع الجميع بمختلف انتماءاتهم ومذاهبهم وأعراقهم؟ لا سيما أن كردستان كانت لسنوات طويلة ملاذا ومستقرا لكل الهاربين من أوطانهم، والباحثين عن الأمن والأمان فيها.

ورغم ما يلصق بهذه الشريحة من تهم بامتهانهم لمهن قد يعتبرها البعض غير لائقة، ولكن نمط الحياة عند هؤلاء الغجر يقوم على تلك المهن التي لا يجيدون غيرها، من أهمها التسول وقراءة الكف والرقص والغناء، فهل ستسهم مبادرة المعلمة الكردية السيدة هانا فاضل أحمد بفتح مدرسة خاصة لهم في دفع هؤلاء إلى تغيير نمط حياتهم والتوجه نحو التعليم والحصول على الشهادات الدراسية لكي يتمكنوا من التخصص في مهن أخرى تسهم في اندماجهم بالمجتمع الكردستاني، أو على الأقل اكتساب التعليم ولو في سبيل قضاء حاجاتهم اليومية؟

تقول السيدة هانا التي بادرت لأول مرة في تاريخ غجر كردستان بفتح مدرسة خاصة لهم في مدينة السليمانية لـ«الشرق الأوسط» إنه «كنت أتألم عندما أرى أطفال الغجر ونسوتهم وهم يتسولون في الشوارع والأحياء السكنية، وكنت كلما سألت طفلا منهم عن أسباب تسوله وعدم بحثه عن عمل آخر، كان رد الجميع أنهم لا يعرفون القراءة والكتابة، وأنهم لم يدخلوا أية مدرسة في حياتهم».

وتضيف هانا أن «الأمر لم يقتصر على أطفال الغجر، بل إن الكبار منهم أيضا لم يدخلوا المدارس في حياتهم وحرموا من أساسيات التعليم والثقافة، لذلك اختمر في ذهني مشروع فتح هذه المدرسة لهم، والحمد لله تلقيت تشجيعا رسميا ودعما كبيرا لإنجاح هذه الفكرة وجعلها في متناول اليد، وهكذا فتحنا هذه المدرسة المقامة الآن على خيمة بمساحة 18 مترا تضم حاليا 89 تلميذا في المرحلة الابتدائية بدوام صباحي، فيما كرسنا الدوام المسائي للفئات العمرية الكبيرة ويضم حاليا 120 تلميذا».

وعن المنهج الدراسي الذي تعتمده المدرسة الجديدة، تقول هانا: «هو نفس منهج المدارس الابتدائية الرسمية المعدة من قبل وزارة التربية، وطبعا هذه المدرسة لا تدخل في إطار حملة محو الأمية بل تندرج في إطار النظام الجديد المعتمد من وزارة التربية الخاص بالتعليم السريع للكبار، ونتوقع أن يزورنا السيد وزير التربية في غضون الأيام القادمة لمعاينة وضع المدرسة وتلبية احتياجاتها، عندها سنبحث معه مسألة الشهادات المدرسية التي سيحصل عليها هؤلاء التلاميذ حال تخرجهم بعد سنوات، واعتمادها كشهادات رسمية».

بدت السيدة هانا خبيرة بتاريخ الغجر وهي تروي لـ«الشرق الأوسط» أصل وتاريخ هؤلاء الغجر وكيف أنهم وصلوا إلى العراق، وتقول إن الغجر يتوزعون في العراق بين 3 مناطق أساسية حاول النظام السابق أن يجمعهم فيها، وهي مجمع غجري واقع بين المجر الكبير والمجر الصغير جنوب العراق، ومجمع آخر في الزبير بمحافظة الموصل، ومجمع في أربيل يقع قرب قرية «بحركة» بنحو 15 كيلومترا عن أربيل، وتضيف أن النظام السابق كان قد منح الجنسية لهؤلاء بهدف إسكانهم واستقرارهم، ولكن هيهات للغجر أن يستقروا في مكان معين، فالترحال هو جزء من شخصيتهم ونمط حياتهم، وكانوا يرحلون إلى جميع الدول. ولكن تركيا منعت استقبالهم في السنوات الأخيرة، وإيران بدورها رفضت دخولهم باعتبارهم يحملون الجنسية العراقية واشترطت عليهم الحصول على تأشيرات الدخول، وهذا بالطبع مستحيل لأنهم يرحلون بشكل جماعي وليس فرديا.

وتقول هانا إن الغجر في كردستان كعادتهم لا يستقرون أبدا فتراهم يرحلون من السليمانية إلى أربيل ثم إلى دهوك ثم زاخو، ومن هناك يعودون بنفس الطريق إلى السليمانية، فلا قرار لهم أبدا، «ولذلك فنحن فكرنا لضمان استمرارية هؤلاء التلامذة المنخرطين في الدراسة بمدرستنا أن نلحقهم أينما ذهبوا، ورغم أن هذا الأمر صعب جدا ويكبدنا الكثير من الجهد ولكننا مستعدون لهذه المهمة الإنسانية لأننا بالأساس نرغب ونعمل على تغيير حياة هذه الشريحة المحرومة في المجتمع الكردستاني».

ليست هانا فاضل وحدها من تتحمل العبء الأكبر في إدارة هذه المدرسة وتدريس طلابها على الرغم من كونها مديرتها، فأحد المعلمين المتقاعدين في السليمانية بادر تطوعا بإعطاء الدروس لطلبة هذه المدرسة، وتقول مديرة المدرسة: «اليوم واصل هذا المعلم تدريسه لـ6 ساعات متواصلة، وهو لا يريد أي ثمن أو أتعاب مقابل هذا الجهد الخيري والإنساني، وهذه بادرة نشكره عليها». ويعاونها أيضا 3 معلمين آخرين نسبتهم مديرية تربية السليمانية للتدريس في المدرسة. يذكر أن غجر كردستان نزحوا إليها خلال موجة النزوح التي جاءت منذ قرون من الهند وتوزعوا في أنحاء العالم، ويتحدث هؤلاء لغة واحدة هي اللغة الرومية، وتتوزع إلى الكثير من اللهجات من أهمها لهجة «الروم»، واللهجة المعروفة في كردستان بلهجة الـ«دوم» وفي أربيل يعرف هؤلاء الغجر باسم «دوم» فيما يعرفون في السليمانية باسم «قرج». وبالطبع فإن دراستهم في المدرسة الخاصة التي افتتحت لهم مؤخرا ستكون باللغة الكردية المحلية المعتمدة رسميا في الدراسة.

ومن جهته، قال فيصل محمد والد التلميذة «بناز» وشقيقها «بمو» اللذين انخرطا في المدرسة لـ«الشرق الأوسط»: «لقد تأخرت في دفعهم للتعليم، ولكن الأمر لم يكن بيدي، فأنتم تعلمون ظروف حياتنا في التنقل والترحال المستمر، ولكني أرغب حاليا في الاستقرار بسبب دخول أطفالي إلى المدرسة، فأنا حرمت من متاع الدنيا ولا أريد لهم أن يلاقوا نفس مصيري، لذلك أشكر المعلمة هانا التي بادرت بفتح هذه المدرسة، وتعاهدنا جميعا على دعمها لإنجاح هذه التجربة فكفى تشرد أطفالنا في الشوارع، وأريد أن يحيوا بعد الآن مثل أطفال الآخرين».

أما عبد الوهاب عبد العزيز والد الطفلين إسماعيل ودلير فيقول: «أنا حرمت من التعليم والدراسة وامتهنت التسول هنا وهناك، وقضيت حياتي كلها في التسول، ولا أريد لأطفالي أن يعيشوا كما كنت، وفي الحقيقة حاولت كثيرا أن أنجي أطفالي من هذا الوضع المزري والمهين بإدخالهم المدارس، ولكن للأسف لم تقبلهم أي مدرسة بسبب كونهم مشردين ومتسولين، ولكن الحمد لله بهذه المبادرة أصبح بإمكانهم أن يدرسوا ويتعلموا، وما بقي لي من الأمنيات في الحياة هو أن أرى أطفالي متعلمين ويعملون بمهن شريفة ومستقرة ليغيروا واقعنا وواقعهم ويساندونا في تحمل أعباء المعيشة بما بقي لنا من العمر».