حمى الرسم على الجدران تغزو شوارع فيينا

فنان الغرافيتي البريطاني بانكسي لعب دورا مهما في انتشارها

رسومات الغرافيتي انتشرت أولا بعيدا في أطراف المدن ثم اقتحمت الدواخل أو المراكز بطلاء جدران محطات قطارات الأنفاق (أ.ف.ب)
TT

تعيش العاصمة النمساوية فيينا هذه الأيام حمى فن الرسم على الجدران، أو الغرافيتي، الذي تحول من شخبطات تحاربها سلطات البلديات وتنشط في إزالتها لفن من ألوان الفنون الحديثة له معجبون ومتحمسون وفنانون مشهورون عالميا تباع رسوماتهم في أكبر المزادات بملايين الدولارات كما تسعى متاحف العالم الأولى لاقتناء رسوماتهم.

ويقال إن جدارا بالمنطقة الرابعة من فيينا بشارع «شلايف مول غاسي» حظي برسم من أشهر فنان غرافيتي قد تم قطعه بصورة تقنية عالية المهنية للاحتفاظ به كلوحة فنية ينظر لها بمثابة ثروة هبطت على صاحب المنزل، وتتطاير في المدينة شائعات بأن صاحب المنزل بصدد عرض القطعة على أكبر متاحف الفن الحديث بالمدينة مقابل آلاف اليوروات.

يعود سبب الاهتمام المفاجئ لأهل فيينا بهذا الفن لفيلم «مخرج عبر متجر الهدايا» وهو فيلم شبه توثيقي تم إخراجه في مارس (آذار) الماضي يعرض لمحات «يظهر» فيها أشهر فناني الغرافيتي الذي هو شخصية رغم شهرتها الفائقة عالميا فإن أحدا لا يعرف على وجه الحقيقة كنهها أو بالأصح لا يعرفون معالم وجهه التي تعود فكرة إخفائها أساسا لعدم شرعية ما يقوم به هؤلاء الرسامون وحرصهم على ألا يقعوا في قبضة الشرطة بتهمة التعدي على ممتلكات الغير ومخالفة قوانين النظام العام.

وكان المشرفون على أسبوع فلم الفيينالي الذي استضافته فيينا الشهر الماضي قد اختاروا فيلم «مخرج عبر باب متجر الهدايا» للعرض ضمن 130 فيلما من أحدث الأفلام عالميا فأثار اهتماما كبيرا وحقق نسبة حضور عالية. كما غطت المدينة عدة رسومات من وحي الفيلم وفي أكثر من موقع بما في ذلك بعض جدران المباني بساحة كنيسة القديس اشتيفان أكبر المواقع جذبا للسياح. فيما التحفت جماعات من الشباب بأقنعة تشبه قناع فنان الغرافيتي الذي ظهر في الفيلم دون أن تتكشف معالمه، وذلك في إشارة للبريطاني بانكسي الذي يقال إنه هو الفنان الذي رسم أشهر رسومات الغرافيتي وأقواها في أكثر من مدينة بدءا من بريستول ولندن وصولا إلى الجدار العازل بغزة ومختلف المدن الأميركية وأستراليا وباريس وفيينا.

ومما يعتقد أن بانكسي شاب بريطاني ولد عام 1974 وتدرب للعمل كجزار تغلب عليه حب الرسم فوجد في الجدران متسعا، ومما زاد من شهرة رسوماته قوة تعبيراتها وما تهدف لإيصاله من رسالات ومعان سياسية في الأغلب ضد الحرب والرأسمالية، وكثيرا ما يستخدم رموزا كبعض الحيوانات في مقدمتها الفئران كما استخدم أفيالا وقرودا وأطفالا ورجال شرطة، بل تجرأ واستبدل صورة ملكة بريطانيا المرسومة على ورقة العملة من فئة الجنيهات الإسترلينية الـ10 بصورة لليدي ديانا.

وكما هو معلوم فإن رسومات الغرافيتي أول ما بدأت انتشرت بعيدا في أطراف المدن ثم اقتحمت الدواخل أو المراكز بطلاء جدران محطات قطارات الأنفاق. ومن جانبه عمد بانكسي في بدء مشواره لوضع رسومات صغيرة في مختلف الأماكن التي تسنى له أن يرسم فيها، ولم تكن بالضرورة رسومات ضخمة بل أحيانا مجرد رسم صغير مصحوبا بعبارة قوية، ومن ذلك مثلا رسماه بحديقتي حيوانات لندن حيث ظهر رسم بجوار حوض للبطريق تجأر فيه مجموعة بضجرها من التهام السمك كطعام يومي، أما في حديقة بريستول فرسم على جدار ساحة الأفيال واحدا منها وكأنه يشكو من ضيق المكان.

مع زيادة انتشار رسوماته عمد بانكسي لاستخدام الاستنسيل بوضع إطار رسومات من الورق يرشها بالألوان مما ساعده على إنجاز العمل بإتقان في وقت أقصر ومن ثم انتقل لمواقع أكثر جرأة. وفي بعض الأحيان تعمد إضافة خطوط ورسومات وإحداث تغييرات في لوحات مشهورة منها بإضافة بقايا ومخلفات إنسانية معاصرة للوحات حدائق الفنان التعبيري كلود مونييه «زنابق الماء» كما أدخل على لوحة الموناليزا أكثر من تعديل بغرض أن تبدو أكثر انتقادا للأوضاع الاجتماعية والسياسية الحالية بدلا أن تظل على ابتسامتها الغامضة وفيما اعتبر البعض تلك الإضافات ثورية تصرخ احتجاجا ضد ما اعترى المجتمعات من مظاهر وسلوكيات استهلاكية ومادية اعتبرها البعض تخريب مستهجنين المساس بأعمال فنية خالدة.

ومع اختلاف وجهات النظر تجاه تقييم أعمال بانكسي فإنه لم يتوقف بل واصل رسوماته لدرجة أن تأثرت به مجموعات أخرى من رسامي الغرافيتي في كثير من المدن، لا سيما أن نشاطه قد توسع خارج نطاق الولايات المتحدة وأوروبا وفي عام 2005 ذهب إلى فلسطين ووضع رسما على الجدار العازل.

وفيما أكد مدير فيلم الفيينالي أن فيلم «مخرج عبر متجر الهدايا» قد عاد على أسبوع الفيلم بقطاع جديد من الحضور، كما أنه خلف أثارا بجدران المدينة لم يخلفها فيلم غيره اهتمت جماعات بدراسة ظاهرة رسومات الغرافيتي، وكيف تحولت إلى فن معترف به يعود بالجوائز الفنية المقدرة، وذلك بسبب مناصرة هذه الرسومات كثيرا لقضايا حيوية في مقدمتها محاربة الفقر وأهمية الاهتمام بخطط التنمية المستدامة والعدل الاجتماعي والتغير المناخي. هذا بينما يولي البعض اهتماما خاصا لما يشهده هذا الفن من تغييرات قد تحوله من هواية عند البعض لمصدر رزق، بما في ذلك بانكسي نفسه الذي اشتهر بعدم اهتمامه ببيع أعماله، وإن بدأ يتعاون في الفترة الأخيرة مع أشهر الفنانين البريطانيين الشباب وأغلاهم ممن تباع أعمالهم لأكبر المتاحف والمعارض بمبالغ خيالية كما يعرضونها في أهم المزادات. وقد كسبت لوحة «دون بقع» التي رسمها بانكسي بالتعاون مع البريطاني ديمين هيرست الملايين.

ترمز اللوحة إلى كيف تسعى مجتمعات لإخفاء عيوبها بدلا من علاج مسبباتها، وفيها رسم هيرست ستارة بيضاء جميلة ذات نقط ملونة فيما أضاف بانكسي بواسطة الاستنسيل رسما لعاملة نظافة أنيقة ترفع جزءا من الستار لإخفاء القاذورات التي كنستها.