«الاستثمار الابتكاري» ثروة جديدة ينصح الاقتصاديون باستغلالها

«المجلس الثقافي البريطاني» يحث اللبنانيين على «تشبيك» مواهبهم الإبداعية

مجموعة من الحضور خلال الندوة («الشرق الأوسط»)
TT

في بلد لا يتمتع بثروات طبيعية، وعند سكانه بنية معرفية قوية، فإن أفضل السبل للاستثمار هو التركيز على الابتكار. كان هذا محور النقاشات التي دارت في ندوة «الاستثمار في الاقتصاد اللبناني الابتكاري» التي عقدت نهاية الأسبوع الماضي في بيروت بدعوة من «المجلس الثقافي البريطاني» بحضور ومشاركة أهم الناشطين في القطاع الحكومي وقطاعي الأعمال والتعليم، والمهن الابتكارية.

تأتي هذه الندوة بعدما تبين أن اقتصاد الإبداع تطور كثيرا في المنطقة عموما وفي لبنان خصوصا، خلال السنوات القليلة الماضية، مما انعكس على جودة الإنتاج. وحين يتكلم المتخصصون في المجال عما يسمونه «اقتصاد الإبداع» فهو يشمل ليس فقط الموسيقى والرسم والسينما والأدب، وإنما كل ما يمت إلى الابتكار بصلة ليطال الكلام البرامج الإلكترونية، التصاميم الهندسية، صناعة الملابس، مهنة الترويج، هندسة الصوت، وكذلك الصحف والمجلات والبرامج التلفزيونية والإعلانات والتصوير. وباختصار فإن الندوة حين تتكلم عن هذا النوع من الاقتصاد فإنها تعني كل ما له علاقة بالمخيلة والابتكار، لذلك بمقدور عشرات المهن أن تنضوي تحت هذا العنوان الكبير.

نهار طويل قضاه المجتمعون ليبحثوا في السبل الكفيلة بزيادة الإنتاج الإبداعي وجعله مصدر دخل حقيقيا للبلاد. ولفت المشاركون الغربيون مثل اللبنانيين إلى أن لبنان بلد الثروات البشرية، فعدد المتعلمين كبير، وأصحاب الخبرات في المجالات الدولية والعالمية ليسوا قلة، إضافة إلى وجود فسحة كبيرة للحرية والحركة الاقتصادية في مجتمع مفتوح على العالم، فلماذا لا تتم الاستفادة من هذه العوامل الإيجابية كلها؟ هذه هي الأسئلة الملحة التي طرحها المجتمعون.

جورج زوين، المتخصص في الهندسة الثقافية، اعتبر أن لبنان بلد مفتت الطاقات، يفتقر إلى الفضاءات التي تجمع الموهوبين في مكان واحد بحيث يتمكنون من تبادل الأفكار والخبرات للخروج بما هو جديد ومبتكر. وتساءل زوين: أين المدارس التي تعلم الموسيقى وتعممها؟ معتبرا أنه طالما بقي تعليم الفنون حكرا على فئة معينة من دون جعلها حقا لكل الناس، فإن البلد سيبقى في هذا الوضع التشتتي.

الاستفادة من الخبرات اللبنانية المهاجرة اعتبرها المجتمعون مسألة أساسية، إضافة إلى تشكيل الفضاءات أو المساحات التي يجتمع في ظلها المبدعون. وتم الحديث عن عدد من التجمعات الإعلامية في المنطقة وخارجها مثل مدينة دبي الإعلامية، إضافة إلى التجربة المصرية في هذا المجال، وقال أحد المتحدثين إن وادي السليكون في أميركا هو نموذج لتجمع ناجح يجب أن ينظر إليه من هذا المنظور لفهم أهمية تواصل المبتكرين في ميادين مختلفة.

تحدث مازن سكاف، وهو استشاري في مجال الابتكارات، وعمل سابقا في شركة «جنرال موتورز» عن ضرورة الاستفادة من صغر المساحة الجغرافية للبنان لتحويل بعض المواقع في المدن والأحياء إلى تجمعات ابتكارية، وهي وسيلة لخلق فرص عمل جديدة، قائلا إن التكتلات في اسكوتلندا أسهمت في 4% من الاقتصاد الاسكوتلندي ومنحت الناس هناك 50 ألف فرصة عمل، أما في سنغافورة فقد حققت التجمعات الابتكارية 3% من مجموع الناتج المحلي.

مازن سكاف يذكر أن لبنان يتبوأ مكانا متقدما في المنطقة في مجال الإعلام والإعلان والتسويق، بالإضافة إلى أن المنطقة تستفيد من موارده البشرية في هذا المجال، والمطلوب بالفعل الآن هو تشكيل مساحات تفاعلية، قد تكون مادية ويصح أن تكون افتراضية أيضا عبر الوسائط المتعددة التي باتت متاحة لربط المبدعين ولو كان التباعد الجغرافي بينهم كبيرا، فهناك الشبكات الاجتماعية والبريد الإلكتروني، كما الدردشة والمدونات، إضافة إلى برامج التواصل الصوتي وكلها يمكن أن تستخدم في التواصل. ويقترح سكاف لتحقيق هذه الغاية تقديم حوافز مادية للمبدعين، أو حتى حوافز معنوية، بوضع المتقدم منهم على لائحة تظهر مكانته كمبدع في مجاله. ويعتبر سكاف أن جمهور الناس العاديين بمقدورهم أيضا أن يدخلوا على هذا الخط التفاعلي ليشاركوا المبدعين أفكارهم ومساعدتهم على ابتكار أفضل.

تانيا سابا مزرعاني، المديرة في شركة «بريتك» للتكنولوجيا والصحة، تخالف بعض الشيء مازن سكاف الذي دعا إلى تكتلات في مناطق مختلفة ودعت لأن يكون لبنان كله (بسبب صغر مساحته) تكتلا ابتكاريا أو ورشة إبداع.

أما جوني نيوبيجن، المستشار الاستراتيجي في الصناعات الثقافية الآتي من بريطانيا، فدعا إلى ضرورة وجود مؤسسات رسمية ترعى هذا النوع من النشاطات وتنظمه، مع وضوح كامل للمساحة التي تعتبر من اختصاص الدولة، وتلك التي تعتبر من اختصاص المؤسسات الخاصة. وهي نقطة ضربت على الوتر الحساس للبنانيين الذين اشتكوا منذ بداية هذه الندوة، التي جمعت عشرات الاختصاصيين من لبنان وخارجه، من غياب الدولة. ووصل الحال بأحد الفنانين المستضافين إلى أن يسأل بصوت مرتفع: أين الدولة؟ ثم سأل موجها كلامه للحضور: هل من ممثل لوزارة الثقافة هنا؟ ولم يكن من ممثل بالفعل، فضحك الحاضرون. ثم عاد ليسأل: هل من أحد هنا يعرف عنوان وزارة الثقافة على الأقل؟

ليس فقط غياب الدولة هو الذي اشتكى منه الفنانون الذين تمت استضافتهم في نهاية الندوة، ولكن أيضا عرقلتها لمبادراتهم التي يضطرون هم أنفسهم للبحث عن تمويل لها. فهناك الرقابة التي لا مبرر لها، وهناك أيضا تعقيدات المعاملات الإدارية التي اشتكوا منها، واعتبروا أنفسهم في بلد متروكين فيه لقدرهم ولقدراتهم الخاصة.

وعلى الرغم من أن سلام يموت، المستشارة الاستراتيجية في رئاسة الوزارة، حاولت إقناع الفنانين بأن الوضع يتغير، وأن ثمة خطوات إيجابية مقبلة، فإن هذا لم يقنع أحدا على ما يبدو. وقال المخرج اللبناني فيليب عرقتنجي صاحب فيلم «بوسطة» الشهير الذي لاقى صدى واسعا حين عُرض، إنه كتب الفيلم وهو لا يزال في الخامسة والعشرين، ولم يتمكن من تصويره قبل أن يبلغ الأربعين. وقال إن السذاجة وحدها يمكن أن تكون قد قادته إلى لبنان ليعيش فيه، بعد أن كان في فرنسا، وإلا فإنه لا يرى أي مبرر لذلك.