أحجار الرياض.. تروي تاريخ المليون عام

عاصرت إنسان العصور الحجرية.. وشهدت تواصل المنطقة مع حضارات العالم القديم

أدوات حجرية استخدمها إنسان العصر الحجري عثر عليها في موقع صفاقة بمحافظة الدوادمي
TT

في الوقت الذي يختلف فيه المؤرخون في تناقلهم للأخبار، تأتي الآثار القديمة شاهدة على عصر أهلها، وتعود إلى الماضي الموغل في القدم، لتشق جدار آلاف السنين من تاريخ الإنسان وحضارته، حيث كشفت الأعمال البحثية في شرق أفريقيا في وقت سابق عن أن تاريخ أقدم موقع استيطان بشري يعود إلى 3 ملايين سنة تقريبا.

شبه الجزيرة العربية، كانت جزءا مهما من تاريخ الإنسان القديم وحضارته، وهذا ما كشفته الآثار التي تركها الإنسان في تلك العصور القديمة، ولم تكن منطقة الرياض بحدودها الحالية بمنأى عن هذا التكوين الحضاري القديم.

الكثير من الأسباب جعلت من منطقة الرياض، التي تشغل وسط شبه الجزيرة العربية، وتمثل القسم الأكبر مما كان يطلق عليه الجغرافيون اسـم نجد بقسميها، عالية نجد وسافلتها، مستوطنا للكثير من البشر في العصور القديمة.

ولم تكن منطقة الرياض مجرد رحم للقبائل والشعوب السامية فحسب، بل كانت موضعا ترعرع فيه الإنسان القديم، فالدراسات الحديثة أظهرت وجود الإنسان في منطقة الرياض منذ فترات موغلة جدا في التاريخ، تقترب إلى مليون سنة من الآن.

أبرز تلك الأسباب، التي أسهمت في استيطان منطقة الرياض، كان موقع هذه المنطقة، وتوسطها في قلب شبه الجزيرة العربية، فمن يرتحل من شمال الجزيرة إلى جنوبها، أو من شرقها إلى غربها، كان لزاما عليه المرور على منطقة الرياض. إضافة إلى ذلك، كان التنوع الواضح في طبيعة منطقة الرياض سببا أسهم في تكوين حضارات مختلفة في هذه المنطقة، فجزؤها الغربي يقع في منطقة الدرع العربية ذات التكوين الناري، وجزؤها الشرقي في منطقة الرف العربي، الواقعة شرق الدرع العربية، كما تخترق منطقة الرياض سلسلة جبال طويق التي تمتد من الجنوب إلى الشمال على هيئة قوس ينحدر بشدة نحو الغرب، بطول يبلغ تسعمائة كيلومتر، وارتفاع يصل إلى ما يقارب 1100 متر عن سطح البحر.

كذلك، يجد مؤرخو الهجرات القديمة أن منطقة الرياض كانت الموطن الأصلي للكثير من القبائل والشعوب، خصوصا تلك التي حملت في بداياتها الثقافة الصحراوية، كالأكاديين والأشوريين، والآراميين، والأموريين، الأمر الذي أسهم في جعل المنطقة مرتعا خصبا للآثار القديمة التي خلفها الكثير ممن استوطنوها.

ورصد الأستاذ الدكتور سليمان الذييب، أستاذ الكتابات القديمة بجامعة الملك سعود بالرياض، في كتابه «منطقة الرياض، التاريخ السياسي والحضاري القديم»، تاريخ المنطقة القديم، مستنطقا من خلالها الأحجار والمخلفات الأثرية التي خلفها سكان المنطقة القدماء، في حقبة زمنية طويلة، امتدت من العصور الحجرية القديمة، إلى حدود القرن الخامس الميلادي.

وتطرق من خلال الكتاب إلى تاريخ استيطان البشر في المنطقة، إلى جانب تاريخها السياسي المدون في الآثار والنقوش، والأنظمة الإدارية والسياسية والدينية التي سادت في تلك الفترات الزمنية، كما تحدث الدكتور الذييب، عن مساكن إنسان الرياض القديم، وأسلوب عمارته، والمظاهر الحضارية التي تمتع بها.

وتعمد الدكتور الذييب في إصداره عدم تناول ما جاءت به كتب التاريخ من الأحداث التاريخية، أو ما تم التعارف عليه بمصطلح «أيام العرب»، معللا ذلك بأن هذه الأحداث قد تم تناولها ودراستها بالتمحيص والتدقيق من المؤرخين قديما وحديثا، إضافة إلى رغبته الشخصية في تحاشي الاعتماد على تلك المصادر.

ويكتفي الدكتور الذييب بما تمليه عليه الأحجار والآثار من تاريخ قديم يروي قصة أهل المكان والزمان، مستعينا بالبحوث والدارسات العلمية الأثرية القليلة عن هذه المنطقة، إلى جانب قدرته على قراءة الكتابات والنقوش القديمة في الجزيرة العربية، وتفكيك رموزها وتحليل معانيها.

ويشير الدكتور الذييب إلى أن الاستيطان البشري في شبه الجزيرة العربية يعود إلى حدود المليون عام، وفقا للمعثورات الأثرية التي وجدت في موقعي «الشويحطية» شمال مدينة سكاكا بمنطقة الجوف، وموقع «شعيب دحضة» بمنطقة نجران، وتوحي هذه المعثورات الحجرية بأن الإنسان قد وصل إلى شبه الجزيرة العربية في طريقه إلى قارة آسيا عبر هذين الطريقين، إما عبر اتخاذ الخط البري عبر شبه جزيرة سيناء بمصر، إلى شمال الجزيرة العربية، أو خلال مضيق باب المندب عبر جنوب شبه الجزيرة العربية إلى داخل جزيرة العرب إلى خارجها.

ويرشح الذييب، بناء على هذه المعطيات، أن شبه الجزيرة العربية، بما فيها السعودية، تضم مواقع أثرية مبكرة أقدم بكثير من الشويحطية وشعيب دحضة، لتوسطها بين آسيا وأوروبا وأفريقيا.

ويعود أقدم موقع استيطان إنساني معروف في منطقة الرياض إلى فترة العصر الحجري القديم، وتحديدا إلى ما يسمى بالعصر الآشولي المتوسط، والذي استمر في الفترة ما بين 700 ألف - 400 ألف سنة خلت، ويعرف العصر الآشولي بصناعاته الحجرية المسماة بـ«الصناعة الآشولية»، التي تميزت بالصناعات الحجرية كالفؤوس والأدوات الأخرى، وتمكن إنسان تلك المرحلة من استغلال الموارد النباتية والحيوانية بشكل واضح وجيد.

وفي منطقة الرياض، رُصدت هذه النشاطات القديمة في عدد من المواقع، من أبرزها المواقع التي عثر عليها في محافظة الدوادمي، حيث تكثر فيها مواقع العصر الآشولي، والتي تقدر بالعشرات، وجمعت عددا من الفرق البحثية، من أحد هذه المواقع، والذي اكتشف لأول مرة عام 1979 ما يقارب 13 ألف أداة حجرية، جعلت هذا الموقع أكبر موقع آشولي في الشرق الأوسط جاءت منه هذه الكمية من الأدوات.

وتنوعت بيئات الاستيطان في منطقة الرياض من العصر الحجري القديم وصولا إلى عصر الممالك العربية، حيث استوطن إنسان الرياض القديم في مصاطب الأودية المنخفضة، كما استوطن أيضا في شواطئ البحريات القديمة، وهذا ما لوحظ في عدد من المواقع في الخماسين جنوب مدينة الرياض.

كما كان الاستيطان ظاهرا في التلال الرملية، ويمثلها موقع رمال بنبان الواقعة شمال غربي الرياض، ونفود الثويرات غرب محافظة الزلفي، إلى جانب مرتفعات الحجر الرملي، وتمثله المواقع التي عثر عليها في هضبة العرمة، أقصى شرق هضبة نجد.

واستوطن إنسان الرياض القديم الكهوف والمغارات أيضا، ككهف جبل خنوقة الواقع إلى الشمال من الدوادمي، وعثر فيه على رسوم صخرية، وكهف القويع بحوطة بني تميم، والذي وُجدت به عظام حيوانية وآدمية تدل على ارتياد الإنسان له.

واستوطن الإنسان المرتفعات الجبلية بمنطقة الرياض، والمناطق السهلية المنخفضة بها أيضا، إضافة إلى مناطق الأودية والتجمعات المائية، ومن أبرز هذه الأودية وادي حنيفة، الذي يبلغ طوله 150 كيلومترا، حيث انتشرت على ضفافه مئات المواقع التي دلت على استيطان الإنسان فيه، وأبرزها موقع صفاقة القريب من الدوادمي، الذي أثبتت الدراسات العلمية لمعثوراته وآثاره أنه يعود إلى العصر الآشولي.

كما جاءت المواقع المحاطة بالجبال من إحدى جهاتها مثالا على البيئات التي استوطنها الإنسان قديما في منطقة الرياض، وأبرز هذه المواقع هو موقع قرية الفاو، والتي تقع على بعد 100 كيلومتر جنوب محافظة وادي الدواسر، حيث تحاط قرية الفاو بسلسلة جبال طويق من الشرق، لتسترها عن الرياح الشرقية.

حياة الإنسان القديم، بظروفها الطبيعية والاجتماعية المختلفة، كانت تجبره على أخذ الحيطة والاحتراز، والتسلح بالأدوات المتاحة لمواجهة ظروف الحياة المختلفة، فكانت الفؤوس أولى الأدوات أو الأسلحة التي ابتكرها إنسان العصر القديم، وكان ذلك في أفريقيا، ثم انتقلت لاحقا إلى آسيا، فغرب أوروبا، وقد صنعها من الحجر، وبأطراف حادة أو رأس ثاقب، ولم تستخدم الفؤوس للقتال والحرب فحسب، بل تعدتها إلى الصيد والزراعة لاحقا، كما أظهرت الكثير من المواقع الأثرية قرب محافظة الدوادمي وغيرها من المواقع الأخرى.

وكانت السهام أحد أقدم الأسلحة التي استخدمها الإنسان، وإنسان الرياض على وجه الخصوص، وعُثر على رؤوس سهام رمحية الشكل في بنبان والثمامة شمال الرياض، ورسوم صخرية جاء فيها السهم في عدة مناظر في مناطق مختلفة جنوب الرياض، ويشير أحد هذه الرسوم التي وجدت في قرية الفاو، إلى أن السهام تم استخدامها في الصيد أيضا، حيث يظهر رسم لجمل يركض وهو مصاب بأحد هذه السهام. وعلى الرغم من تفاخر العرب منذ قديم الزمان بالسيف، واعتدادهم به، إلى جانب ذكر المصادر التاريخية الإسلامية لاستخدام السيوف في الحروب، فإنه لا توجد أدلة أثرية واضحة تبين استخدامه بشكل واسع عند إنسان الرياض القديم، ما عدا رسما واحدا يؤكد أن صاحبه يحمل سيفا أو خنجرا، وهو رسم المعبود «كهل»، الذي عثر عليه في قرية الفاو.

الموقع الجغرافي المميز لمنطقة الرياض أسهم في تعزيز علاقتها مع بقية مناطق شبه الجزيرة العربية، ومناطق وحضارات أخرى خارج شبه الجزيرة العربية، كالحضارات المصرية والفارسية واليونانية.

كذلك، كانت الصلات وطيدة بين منطقة الرياض القديمة، ومناطق جنوب شبه الجزيرة العربية، ويستدل بذلك على ما تم كشفه من شظايا الحجر الصابوني في وادي حرض، ومن ناحية أخرى، دل الختم الرصاصي المصنوع من المعدن، والذي يحوي أحرفا سبئية، والذي عُثر عليه في موقع السيح بالأفلاج - 300 كيلومتر جنوب الرياض - على العلاقة والاتصال الحضاري مع اليمن القديم.

وإلى جانب الاتصال مع المناطق داخل شبه الجزيرة العربية، فكان هناك اتصال حضاري مع شعوب أخرى خارج حدود شبه الجزيرة العربية، حيث وجد في قرية الفاو عملات يونانية قديمة، تدل على وجود اتصال مع اليونان، كما يبين تمثال الطفل المجنح، الذي يشير للمعبود «هاربوكراتيس» ابن المعبودة المصرية «إيزيس»، الأمر الذي يؤكد الاتصال القديم بين منطقة الرياض، والحضارة المصرية القديمة.

ولم تقتصر الاتصالات الخارجية على اليونان ومصر فحسب، حيث وصلت لبلاد فارس شرقا، كما تجاوزت اليونان وصولا إلى رومانيا، وبرزت في هذا الشأن قرية الفاو التي اتخذها الكنديون - نسبة إلى مملكة كندة - عاصمة لمملكتهم، منذ القرن الرابع قبل الميلاد وحتى القرن الرابع للميلاد، إلى أن غادروها واتخذوا من نجد مركزا لحكمهم، قبل أن يتم اكتشاف هذه القرية في العصر الحديث، عبر فريق بحثي يقوده عالم الآثار عبد الرحمن الأنصاري.

واليوم، لا تزال منطقة الرياض، بعاصمتها الإدارية (الرياض)، مركزا حيويا متصلا بحضارات العالم، وزادت عن الرياض القديمة باتصالها بكل أطراف العالم وثقافاتها، لتكمل سلسلة حضارية موغلة في جذور التاريخ، ابتداء من عصر الإنسان الحجري القديم، حتى وقتنا الحاضر، ولا تزال تحتاج إلى مزيد من الأعمال الكشفية التي تكشف ماضيا مزدهرا، يتسق مع حاضرها الواعد.