مصر: «السحابة السوداء» تجثم على أنفاس العاصمة وتخفي تألقها الليلي

دستة من الوزارات عجزت عن مواجهتها منذ أكثر من عقد

لقطة من المحطة الفضائية التابعة لوكالة «ناسا» تظهر تألق وادي النيل بمصر ليلا
TT

ما أن أعلن قبطان الطائرة دخولها المجال الجوي المصري حتى دفع الحنين الجارف الدكتور مصطفى عبد الرازق، وهو طبيب مصري يعمل بأحد مستشفيات لندن، إلى القيام من مقعده وهرع إلى النافذة، رغم التعليمات الصارمة بالتزام المقاعد وربط الأحزمة، محاولا اختراق السحب بنظره ليستمتع بالمشهد الذي لم يره منذ أكثر من 15 عاما، حين غادر القاهرة للمرة الأخيرة ليقيم في بلد مهجره.

كان مصطفى حسن الظن بمدينته.. وكان ظنه ذلك، وبعض الظن إثم، يشمل منظر القاهرة من عل في ليلها الشتوي الصافي، ذلك المنظر الذي طالما خلب قلوب أهل القاهرة وزائريها من السائحين على السواء.. المنظر المتلألئ بأضوائها التي قلما تنطفئ، والممتد على مدى البصر دليل على الألفة والعمران، والذي اختارت وكالة «ناسا» الفضائية الصور التي التقطتها له محطتها الفضائية كأحد أروع المشاهد الليلية على الكرة الأرضية.

ولكن ظن مصطفى، وبصره ارتدا كطعنة خنجر في قلبه.. وخالجه شعور زائف في بداية الأمر أن هناك عطبا كهربائيا امتد إلى أرجاء المحروسة كلها.. ولكن ما أن دقق النظر حتى اكتشف أن المنظر الكالح الذي يراه لا يعود إلى ضعف الإضاءة، ولكنه يعود إلى الضباب الأسود الكابي فوق وجه العاصمة.

رفقاء مصطفى، من معتادي التردد على العاصمة، طمأنوه أن هذا هو حالها منذ سنوات، وأخبروه أن القاهرة نحتت لها لقبا على غرار العاصمة البريطانية لندن «مدينة الضباب»، ولكنه بعد التحوير صار «مدينة الهباب»، عوضا عن كنيتها السابقة كمدينة الألف منارة (أو مئذنة)، والذي ظل يرافقها لمئات السنين.

«الضباب الدخاني»، الذي اصطلح المصريون على تسميته بـ«السحابة السوداء»، والذي يطغى على المشهد القاهري في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول) منذ عدة أعوام، ألهب المقل وجعل المآقي مدرارة للدموع دون ترح، اللهم إلا حزنا على حال المدينة، وجعلت رائحته المشتعلة من السعال الجاف لحنا دائما في خلفية المشهد القاهري لم يميز بين الكهول أو الشباب أو الأطفال الذين صارت صدورهم أشبه بعتاة المدخنين والحشاشين من فرط الحساسية.

عيادات أطباء الأطفال والأمراض الصدرية والحساسية اكتظت بالمرضى، لتحقق المثل القائل إن مصائب قوم عند قوم فوائد.. ويعلق الدكتور محمود عاصم، استشاري أمراض الأطفال، على مخاطر تزايد أعداد الأطفال المصابين بأمراض الحساسية وما يتبعها من أمراض صدرية قائلا: «التعرض لمثل تلك الأجواء الملوثة قد يسفر عن مأساة حقيقية في المستقبل القريب.. فالجيل الصاعد من الأطفال والمراهقين سوف يكون جيلا مصابا بالأمراض الرئوية والقلبية وتسمم الدم والعقم وانخفاض نسبة الذكاء وغيرها من الأمراض المرتبطة بالتلوث البيئي، ما يعني أنه لن يكون قادرا على أداء أي عمل ولو بسيط دون أن يعاني من أزمات ربوية أو مشكلات بالجهازين التنفسي والدوري. ببساطة، قد تؤدي تلك السحب السوداء إلى كارثة استنزاف طاقة الجيل القادم، وفقدان القوى البشرية».

وزارة الدولة لشؤون البيئة، المعنية بدراسة الظاهرة وإيجاد الحلول الفاعلة لحلها، تبدو كمن يحرث البحر.. فمنذ نشأتها كوزارة مستقلة قبل نحو 3 سنوات وهي تحلل الموقف وتدرسه، وتصدر بيانا تلو الآخر للتحذير من مغبة الظاهرة.

ويقول تقرير حالة البيئة السنوي في مصر الخاص بعام 2009، والصادر عن الوزارة في يونيو (حزيران) عام 2010: «تعتبر نوبات تلوث الهواء (السحابة السوداء) ظاهرة من أهم الظواهر البيئية التي كادت أن تكون مزمنة منذ عام 1999، خاصة في سماء القاهرة. وتزداد حدة الظاهرة أثناء فترات الليل بعد غروب الشمس وفي الصباح الباكر، وتتفاوت شدة السحابة من عام إلى آخر».

ويستطرد التقرير: «وقد أكدت جميع الدراسات للمراكز البحثية المختلفة والخبراء بجهاز شؤون البيئة أن أسباب حدوث السحابة السوداء يرجع إلى عدة عوامل أساسية هي: ارتفاع تركيزات الملوثات في هواء القاهرة، حدوث ظروف جوية تعرف باسم ظاهرة الانعكاس الحراري، الطبيعة الجغرافية لمحافظة القاهرة، وكذلك الكثير من المصادر المختلفة التي تساعد على حدوث التلوث في هواء القاهرة الكبرى مثل التلوث الناتج عن الصناعة والتلوث الناتج عن وسائل النقل المختلفة والحرق المكشوف للمخلفات الصلبة والزراعية حول محافظات القاهرة الكبرى».

وسبق أن أدانت تقارير وزارة الدولة لشؤون البيئة حرق المزارعين لمخلفات (قش) الأرز في التسبب بالسحابة السوداء، وقالت إنها مسؤولة عما لا يقل عن نحو 50% من مسببات التلوث الجوي في شهري نوفمبر وديسمبر بمصر. بينما يتعلل المزارعون بأن الدولة لا توفر لهم آلية منطقية للتخلص من مخلفات الأرز، التي تقدر بنحو 5 ملايين من الأطنان سنويا.

ورغم أن التقرير يشير إلى انخفاض معدلات حرق قش الأرز نتيجة مخاطبة المزارعين وتوعيتهم بمخاطر ما يقومون به، فإن الواقع المرئي و«المستنشق» يؤكد أن الأمر لا يزال كما هو.

وهو ما يؤكده أحمد فهمي (40 عاما)، مزارع من محافظة الشرقية، قائلا: «الحكومة بعد ما تاخد الرز، بتسيبنا في ورطة كل سنة.. القش بيملا الأرض وما بنعرفش نوديه فين، ولو جيبنا عربيات تشيله ح ندفع لها أكتر من تمن المحصول كله.. نعمل إيه يعني؟ قالولنا ح نجيب لكم مكابس للقش وح نبعت عربيات تشتريه منكم عشان نعمل منه ورق وعلف، بس أهو كله كلام وبنسمعه من يجي عشر سنين، بس ولا شفنا حد ولا حد بيسأل فينا!!».

مشكلات أخرى تسبب فيها الضباب، مثل حجب الرؤية الأفقية إلى درجات متدنية، أغلقت المطارات أمام حركات الإقلاع والهبوط، وحالت دون مرور السفن بقناة السويس والملاحة بنهر النيل، وتسببت في تكاثر حوادث الطرق.. رغم تحذيرات إدارة المرور المتكررة، وتوصياتها بخصوص القيادة الآمنة في الضباب.

يروي المهندس أسامة محمد (39 عاما) بعيون دامعة، لا تعرف إن كان من أثر الحادث أو من الضباب اللاسع، تفاصيل الحادث الذي تعرض له على الطريق الدائري حول القاهرة في تلك الأجواء الضبابية، حين اصطدم بأحد الأرصفة الخرسانية لتنقلب سيارته رأسا على عقب.. وبسؤاله عن كيفية وقوع الحادث، ولماذا لم يتخذ الحيطة والحذر، رد قائلا: «كله بسبب السحابة السوداء، وأصل المشرحة لا ينقصها مزيد من القتلى»، كناية عن أن المشكلة متفاقمة بالفعل ولا تفتقر إلى مزيد من الأسباب.

وأوضح الرجل أن السحابة السوداء جعلت السائقين لا يرون أبعد من أصابع أيديهم، هذا بخلاف أن الطرق مظلمة، واللافتات لا تعكس الأضواء بصورة جيدة، والأرض غير مستوية، وهناك غياب أمني شبه تام فيما يخص المرور، وسيارات النقل ذات المقطورة تسير في كل الحارات.. وبسبب انحراف إحداها نحوه من جهة اليسار بصورة مفاجئة، ومحاولة مفاداتها بعد أن أبصرها أمامه على حين غرة، اضطر لأن يصطدم بالرصيف حتى لا تدهسه القاطرة تحتها!! وبسؤال وزارة الداخلية عن إجراءاتها المتبعة في مثل هذه الحالات، أفادت مصادرها بأنه يجب على السائقين الالتزام بالسرعات المقررة والحارات المرورية والعلامات الإرشادية، وأن الوزارة تقوم بتوفير أطقم عمل إضافية لتسيير الحركة المرورية على الطرق السريعة والداخلية قدر الإمكان في حال تكاثف الضباب، ولكن الأخطاء البشرية هي العنصر الأكثر تسببا في الحوادث، ولو التزم الجميع بالإجراءات لانخفض عدد الحوادث بصورة كبيرة.

الأزمة لم تقتصر تداعياتها على وزارات الصحة والداخلية والزراعة وشؤون البيئة فقط، ولكنها تمتد لتشمل وزارة النقل (الأرضي والنهري والبحري)، والموارد المائية والري (بسبب التلوث الثانوي للمياه)، والطيران المدني (اختلال جداول الطيران بمعظم أنحاء مصر)، والتعليم (لتغيب الطلاب عن الانتظام بالعملية التعليمية)، والبحث العلمي (المنوطة بتوفير البدائل والحلول التقنية للتغلب على المشكلة)، والسياحة (لإحجام قطاع كبير من السائحين عن زيارة مصر في مثل هذه الأوقات الحيوية للغاية التي تشمل أعياد رأس السنة الميلادية)، والإعلام (المسؤولة عن توعية المواطنين وإعلامهم بمخاطر وأسباب الكارثة)، والكهرباء والطاقة (المطالبة بتوفير كميات أكبر من الطاقة لإضاءة الشوارع وتشغيل منقيات ومكيفات الهواء).

ولكن ومن جهته، أبطن الدكتور مصطفى عبد الرازق، المغترب عن وطنه منذ أكثر من 15 عاما، في قرارة نفسه ألا يزور مدينته مجددا إلا صيفا.. فمهما بلغ قيظ الحرارة في صيف مصر اللاهب، فإنه سيكون أهون كثيرا من دفء شتائها المفعم بـ«الهباب»..