محمد عبلة يحاور مباني القاهرة في معرضه الجديد بقاعة الزمالك

حول تشوهها البصري والجمالي إلى معزوفة فنية

يحتضن المعرض الذي استضافته قاعة الزمالك نماذج من عمارات وبيوت القاهرة القديمة والحديثة («الشرق الأوسط»)
TT

يواصل الفنان محمد عبلة مغامرته التشكيلية مع مدينة القاهرة ودبيبها المفعم بحيوية البشر ومفارقات الحياة، فبعد عدد من المعارض حاور فيها زحامها، ونيلها وأضواء ليلها؛ ها هو يطل عليها في معرضه الجديد «أبراج القاهرة» من نافذة بصرية خاصة، مفتوحة على تاريخها بثقافاته وأزمنته المتعددة.

يحتضن عبلة في المعرض، الذي استضافته قاعة الزمالك، نماذج من عمارات وبيوت القاهرة القديمة والحديثة، ومن خلال معايشته الحميمة لها استطاع أن يؤسس علاقة جمالية جديدة بها، ويخلق لها فضاء تشكيليا خاصا، تتنوع فيه مظاهر الحركة في كتل وأحجام كبيرة متداخلة مجردة من الزخرف والتحلية، يخترقها الضوء بانسيابية مباغتة، وتستمد هويتها الجمالية من خلال تجاور وتقاطع «تونات» هائلة من الألوان، وتنوع خطوط الفرشاة الطولية والعرضية، المقوسة والمتناثرة في ومضات خطية خاطفة، تتدفق في هرمونية بصرية من أسفل لأعلى اللوحة والعكس أيضا، ويصل عبر كل هذا إلى إيقاع لافت من البساطة يتسم بأناقة تشكيلية تضفي على التكوين مسحة إنسانية مشربة بعبق التاريخ وبروح البشر في المكان نفسه.

يتمرد عبلة على غواية السطح الأملس المجرد، ويجابهه باندفاعات متلاحقة بالفرشاة، مشحونة بعواطفه ومشاعره وتأملاته الشخصية، وبحساسية خاصة للون، وبقدرة على دفع الكتلة إلى مستوى أبعد وأعمق من علاقتها المباشرة بالفراغ، فتتراءى في الكثير من لوحات المعرض وكأنها بمثابة تلخيص لجذرية الحياة، أو هي جسر لحوار شفاف بين عين الفنان وما تموج به هذه المباني من أسرار وحكايات؛ لا يزال صداها حاضرا في ذاكرة مدينة انكسرت روحها، تارة بالتشويه البصري والمعماري، وتارة أخرى بقدرة وطاقة معطلتين عن الحلم والحب.

يجسد عبلة هذا التلوث والتشويه بألوان رمادية كابية، تقطعها أحيانا حمرة طوبية، تسود التكوين في عدد من اللوحات وتسبح في الخلفية كسحابات دخانية منطفئة، بينما ينتصب الشكل بقوامه الفني كنصب تذكاري، وشاهد عيان، وأحيانا كصرخة موجعة، تدعو لإعادة النظر والقراءة والتأمل، كما يكثف هذا الإيقاع في لوحات أخرى، باحتشاد لوني باذخ تتنوع في أرضيته المستطيلات والمربعات الصفراء والخضراء والبيضاء والزرقاء، بخامة الأكريلك الرواغة على مسطح الخيش، كما تومض هياكل ورموز ونثريات المكان، من لافتات وإعلانات، وأطباق هوائية، وملابس لم تجف على حبال الغسيل؛ تتجاور وتتداخل بعفوية وتلقائية فوق سطح الكتلة.

يعزز عبلة كل هذا بصريا بعدم الاكتراث كثيرا بالمنظور التقليدي، ويسعى من خلال مضاعفة التقاطعات اللونية والخطية، وتنويع انبثاقاتها على سطوح الأشكال إلى قنص مفهوم جديد للفضاء، يؤسس حياة خاصة لهذه الأشكال داخل اللوحة.

إننا لا نعدم إحساسا – ولو مجازيا - بالمنظومة النحتية في الكثير من اللوحات، خاصة في توظيف الفضاء بشكل معماري، وتعاقب مظاهر الإيقاع ما بين الداخل والخارج، وتكثيف محاور وبؤر الاتزان للشكل من زوايا كثيرة، والمواءمة بين ماهية الشكل نفسه ودفقة الفوران والارتجال، ناهيك عن معالجات شيقة للضوء، لا تعتمد على مصدر خارجي، أو حيل التضاد بين النور والعتمة، أو بين الليل والنهار، وإنما تعتمد على الطاقة الروحية المكتنزة في اللون وفي حنايا التكوين، وفي هوية المكان (المباني) كقيمة إنسانية وحضارية، لها حيويتها وامتدادها في الزمن والتاريخ.

ويلجأ عبلة في بعض اللوحات إلى بعثرة الكتلة وتفكيكها إلى عناصر ومقومات خطية ولونية تتناثر على الأرضية، وكأنها محاولة «لتشريح المكان» والإمساك بأسراره الإنسانية، كما يتيح هذا التفكيك الوقوف على نغمة اللون والخط بشكل منفرد، واختبار قدرتهما على التحرر من العلائق الرمزية والزخرفية المباشرة، والتلاحم بحيوية مع نسيج الكتلة. كما يلجأ إلى ترك التحديدات الخارجية للشكل مفتوحة، لتتلاحم بعفوية مع الخلفية، مما يمنح الشكل القدرة على التنفس في الفضاء الطلق، ويمهد لدخوله أحيانا في علاقة حوارية مع الخلفية التي تتراءى في بعض اللوحات كمرادف أو ظل للشكل نفسه.

يتواشج هذا مع جرأة فائقة في استخدام بعض الألوان الساخنة بشكل أساسي وصريح (كالأحمر والأصفر) في بعض اللوحات، لتكثيف طاقة التعبير والإحساس بالمشهد، وخطف العين مباشرة من السطح إلى العمق، وتنويع مستويات الرؤية للأشكال، في متعة بصرية، قلما تتوافر في عشرات المعارض التي تضج بها الساحة التشكيلية في مصر شهريا.