«مقهى القزاز» التراثي في بيروت يغلق أبوابه عن عمر يناهز الـ 90 عاما

شكل ملتقى السياسيين اللبنانيين وكان شاهدا على محطات تاريخية عدة

رواد «قهوة القزاز» في جلستهم الأخيرة في منطقة الجميزة («الشرق الأوسط»)
TT

عن عمر ناهز الـ90 عاما عايش خلاله الحروب اللبنانية وكان محطة للقاء الشخصيات السياسية والاجتماعية، أسدل الستار يوم أمس على أبواب مقهى الجميزة الذي يعرف بـ«قهوة القزاز»، أحد أهم معالم بيروت التراثية. فهذا المقهى الذي يحمل اسم شارع السهر البيروتي وقبلة الرواد، لا سيما الشباب منهم من مختلف المناطق اللبنانية، كان، وحتى الأمس القريب، المكان الوحيد الذي يحمل هوية الماضي وروح التراث الشرقي بين عشرات المقاهي والحانات والمطاعم الغربية المنتشرة في محيطه. وبالتالي فإن خبر إغلاقه نهائيا وانتقاله إلى منطقة أنطلياس، شمال بيروت، لم يكن خبرا عاديا بالنسبة إلى الكثير من رواده، لا سيما منهم الذين تزخر ذاكرتهم بلحظات عاشوها في أروقة هذا المكان لسنوات طويلة. الدخول إلى «مقهى الجميزة» قبل يوم واحد من «هجرته» القسرية والتكلم مع رواده الذين ينتمون إلى مختلف الأعمار، تعكس قيمة هذا المكان التاريخية والاجتماعية بالنسبة إليهم. فحول إحدى الطاولات الخشبية وعلى وقع أغنيات فيروز التي تصدح في المكان، يجلس على كراسي القش القديمة عدد من الرجال «يلعبون الورق» ويتبادلون أطراف الحديث الذي لا يخلو من إبداء الحسرة على مقهى كان السبب في تعارفهم ولقاءاتهم اليومية منذ سنوات عدة. وعند سؤالهم عن رأيهم، يمتنع معظمهم عن الإجابة، بينما يتبرع أحدهم بالكلام مشترطا عدم ذكر اسمه ومبديا استياءه الشديد، ويقول بحرقة: «الجميع بات يعلم أن إقفال هذا المقهى هو نتيجة حكم قضائي جائر كان لذوي السلطة والمال الدور الأبرز في اتخاذه». ويضيف: «كثيرا ما شكل هذا المقهى الذي لم يقفل أبوابه في أحلك الظروف وفي أيام الحرب ملتقى للأحباء وللأصدقاء». من جهته يجد الشاب اللبناني المهاجر سليم مجذوب الذي يقصد «مقهى الجميزة» في كل مرة يزور فيها لبنان، أنه بانتهاء «مقهى الجميزة» تنتهي ذاكرة شارع وهوية مكان كثيرا ما شكل وجوده الخيط الرفيع الذي يجمع بين ماضي هذه المنطقة وحاضرها، لا سيما بعد انتشار المقاهي ذات الطابع الغربي.

أما بالنسبة إلى صاحبة المقهى، أنجيل أبي حيدر، التي ورثته عن أمها التي انتقل إليها بدورها من عمتها وزوجها، فالحسرة على مكان يشكل مسيرة عائلة وتاريخ بلد بحلو أيامه ومرها، وعلى تعب سنوات، تظهر واضحة على ملامحها، وإن كانت تحاول قدر الإمكان مواساة نفسها بالقول: «لا أحد يستطيع أن يمحو التاريخ والذاكرة. (مقهى الجميزة) لم ولن ينتهي، انتقل بروحه الشرقية وأجوائه التي لا تشبه أي مكان آخر إلى منطقة أنطلياس، حيث سنكون بانتظار زبائننا وأصدقائنا، خصوصا البيروتيين منهم». وتضيف: «منذ أن قررت تجديد المقهى مع شريكي غالب يعقوب وأنا أتعرض لضغوط من صاحب المبنى إلى أن وصلنا إلى حائط مسدود، فقررت الانتقال». وفي حين لا تنفي أبي حيدر قيمة هذا المكان المعنوية بالنسبة إليها وإلى رواده اللبنانيين على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم السياسية في ظل وجوده في منطقة وسط بيروت، تقول لـ«الشرق الأوسط»: «لن أبكي على الأطلال، بل على العكس أنظر إلى هذه الخطوة بإيجابية، وأنا متأكدة من أنها ستكون خطوة إلى الأمام في مستقبل (قهوة القزاز) الجديدة التي بدأنا العمل بها منذ 8 أشهر، وحرصنا على التمسك بكل ما تميز به المقهى في الجميزة، لا سيما في ما يتعلق بالأجواء الشرقية من الغناء والموسيقى إلى الديكور».

مع العلم بأن تاريخ «مقهى الجميزة» الطويل كان شاهدا على أحداث سياسية ليس فقط عن بعد، إنما بعضها وقع بين جدرانه، وأبرزها ما عرف آنذاك، باسم «حادثة مقهى الجميزة» حيث تعرض زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي، أنطون سعادة، للضرب على يد عدد الكتائبيين الذين كانوا يقيمون مهرجانا حزبيا فيه بدعوة من الشيخ بيار الجميل، وما سميت حينها ثورة الـ1958 البيضاء، بالإضافة إلى بعض كواليس محاولة الانقلاب في 1961 على الرئيس السابق فؤاد شهاب.

أما عن أهم المراحل في تاريخ المقهى الطويل الذي مر بفترات سلم وحرب، تقول أبي حيدر: «في البداية كان عبارة عن خيمة أقامها أحد (قبضايات المنطقة) المعروف بـ(الأسطا باز) في عام 1929، وبعد ذلك بسنوات عدة اشترى المبنى حسن الصمدي وتحولت الخيمة إلى مقهى مع الإبقاء على باز لإدارتها وجعل واجهات أبوابها من الزجاج، الأمر الذي جعلها تعرف في ما بعد باسم (قهوة القزاز) التي صارت ملتقى ومقصدا لأهل المنطقة والأحياء المجاورة لاحتساء القهوة وتمضية الوقت والتسلية بلعب الورق وطاولة النرد وتدخين النارجيلة. وبعد ذلك، في عام 1945 قرر يوسف عبود أن يستثمر المقهى الذي أضاف إليه بعض التحسينات وصار يستقطب أبناء الطبقة الأرستقراطية والموظفين الكبار والقضاة والتجار، بالإضافة إلى عدد كبير من السياسيين اللبنانيين، أمثال رئيس حزب الكتائب بيار الجميل، ورئيس الحكومة السابق صائب سلام، والرئيس كميل شمعون، والوزيرين فؤاد بطرس وميشال ساسين». وكان عبود قد أوصى بالمقهى بعد وفاته إلى والدة أنجيل التي بدأت بإدارته في عام 1951، إلى أن تولت المهمة ابنتها وأعادت تأهيله في عام 2001 في وقت كانت فيه الجميزة شبه مهجورة، بعد الحرب اللبنانية، فكانت الانطلاقة مع مطعمين أو ثلاثة لتشهد بعدها المنطقة انتفاضة سياحية ناشطة وتتحول إلى عنوان السهر البيروتي.

وفي حين لا تزال الشائعات في ما يتعلق بمستقبل مقر «مقهى القزاز» في منطقة الجميزة تدور حول احتمال تحويله إلى فرع لأحد أكبر المصارف، رغم إعلان صاحب المبنى الجديد مسعود رنو أنه لا ينوي هدم المكان أو تغيير معالمه، اختار شباب لبنانيون من تجمع «أنقذوا تراث بيروت» أن يقيموا له في يومه الأخير جنازة خاصة، ونظموا احتفالا تأبينيا في المناسبة، فكانت الدعوة عامة للاجتماع مساء أمس في المقهى لاحتساء آخر فنجان قهوة بين جدرانه على وقع حفلة موسيقية وداعية.