عرض للمنازل الخاصة في لندن

انتشرت في لندن موضة فتح المنازل التاريخية الخاصة التي يملكها أفراد ذوو حس جمالي وفني ويعكسون بداخلها أذواقهم الفنية أمام الجمهور

ظهر ليتون هاوس مرات عدة في أفلام وقد افتتحه أخيرا بعد التجهيز الأمير تشارلز (رويترز)
TT

مع تلاشي رائحة زهور نبتة الخزامي الخفيفة من الجو، توقفت مجموعة من الأشخاص للحظة أسفل مصباح يعمل بالزيت تومض بداخله شعلة مهتزة على أعتاب منزل في لندن يرجع بناؤه إلى القرن الـ18. ولولا السيارات الموجودة في الشارع، لخيل للمرء أن الزمن عاد به قرنا إلى الوراء. إلا أنني سرعان ما اكتشفت أن القفزة عبر الزمن لا تحدث فعليا سوى عندما تخطو بقدميك إلى داخل منزل دينيس سيفيرز الكائن في شارع فلوغيت (dennissevershouse.co.uk).

كان سيفيرز (1948 - 1999)، صاحب المنزل، فنانا تتمثل أروع أعماله في منزله المقام على الطراز الجورجي وأنشئ عام 1724 بالقرب من سوق سبيتالفيلدز، في شرق لندن، التي شكلت في فترة من الفترات بورصة المنسوجات الرئيسية في المدينة. وهنا، عاش سيفيرز، وهو أميركي تحول بمرور الوقت إلى واحد من أشد المعجبين بإنجلترا وثقافتها، حياة تشبه إلى حد بعيد تلك التي كان سيعيشها لو أنه ولد في عهد الملك جورج الثالث، حيث اعتمد في تدفئة المنزل على المدافئ، وعلى الشموع في الإضاءة ليخلق بذلك بيئة تاريخية مصممة بدقة تعج بالتحف العتيقة التي قرر في النهاية التشارك فيها مع الجماهير.

وبدلا من تجميد ديكورات المنزل عند لحظة تاريخية بعينها، عمد سيفيرز إلى إظهار الصور المحتملة لتطور المنزل عبر الأجيال المتعاقبة من أسرة واحدة، وهي أسرة إسحاق جيرفيس، الذي عمل في صناعة نسج الحرير، وهي واحدة من أكثر المهن التي شاعت في سبيتالفيلدز، في وقت من الأوقات.

مع تبدل الأوضاع المالية للأسرة بين انفراجة وضيق، قد يجري تعديل الردهة على نحو عصري يلائم أذواق العصر الفيكتوري، أو يمكن تأجير غرفة العلية الرثة لغرباء.

وتترك زيارة المنزل، المؤلف من 5 طوابق، في النفس تأثيرا خاصا في الشتاء، حيث يجري تنظيم جولات بداخله ليلة الاثنين على ضوء الشموع، وتنتشر في المكان روائح الكعك بنكهة التوابل، مما يعزز المناخ العام للمكان.

وقد انتشرت في لندن بوجه عام موضة فتح مثل هذه المنازل التاريخية الخاصة التي يملكها أفراد ذوو حس جمالي وفني ويعكسون بداخلها أذواقهم الفنية، أمام الجمهور.

في الواقع، لقد أصبحت المتاحف المنزلية في لندن بمثابة مصابيح الإنارة في أي مدينة أخرى، بمعنى أنها باتت منتشرة في كل أرجاءها. وربما لا نجد في أي ثقافة أخرى مثل هذا الاستخدام للديكورات الداخلية كوسيلة للتعبير الشخصي. والملاحظ أن إقبال ملاك المنازل والمهندسين المعماريين ومصممي الديكورات المتعاونين معهم على خلق بعض البيئات الجذابة المتميزة ازداد خلال القرون القليلة الماضية.

وسواء كان الزائرون قد سعوا عمدا إلى الوصول لهذه المنازل أو صادفوها في طريقهم، تبقى هذه المنازل جديرة بأن يمنحها المرء جزءا من وقته لتفقدها بما يحمله كل منها من طابع مميز.

من دون ذلك، كيف كان سيتسنى لنا معرفة أمر ماه جونغ، قرد من فصيلة الليمور، الذي كان ينطلق بحرية داخل قصر إلثام في أربعينات وثلاثينات القرن الماضي. يذكر أن هذا القصر كان المنزل السابق للملك هنري السابع (ناهيك عن الملكين هنري الرابع وهنري الثاني)، بالقرب من غرينتش (كورت يارد، إلثام. elthampalace.org.uk). كان ماه جونغ، الذي كانت توجد غرفته بالطابق الثاني، وكانت جدرانها مزدانة بصور لغابات أشجار البامبو، كان الحيوان الأليف المحبوب لستيفين كورتلود، الذي ورث عن أسرته إمبراطورية تجارية في مجال المنسوجات، وزوجته الإيطالية المولد فرجينيا. وقد اشتريا المنزل - المتميز بتصميمه الفريد الذي يعود لعقد السبعينات من القرن الخامس عشر - عام 1933، وطلبا من المهندسين المعماريين سيلي وباغيت تجديده لتحويله إلى منزل حديث يتواءم مع احتياجاتهما الترفيهية.

وتعاون المصممان في خضم ذلك مع الكثير من شركات التصميم، وبالفعل نجحا في أن يضيفا إلى المنزل مزيج رائع من الطرز المختلفة عكس الأذواق السائدة في تلك الفترة. ويتركز الطراز الأساسي في قاعة الدخول المصممة على طراز «آرت ديكو» السويدي، وصممها رولف إنغسترومر وتتميز بقبة رائعة الجمال مكونة من حديد صلب وزجاج. وتحمل الجدران الخشبية القادمة من أستراليا مشاهد من فينيسيا وستوكهولم مطعمة بالصدف. في مختلف أرجاء المنزل، تنتشر وسائل الرفاهية آنذاك مثل نظام اتصال هاتفي داخلي، وساعة متصلة مباشرة بمرصد غرينتش. وداخل غرفة النوم الفينيسية، تغطى الجدران بخشب الجوز، وتوجد أفلام خاصة لآل كورتلود لحفلات أقاموها في منزلهم ورحلات قاموا بها في مختلف أرجاء العالم على متن اليخت الخاص بهم. ويبدو أن ماه جونغ لم يغب قط عن هذه المناسبات.

أما داخل متحف منزل ليتون، أو ليتون هاوس (12 هولاند بارك رود، rbkc.gov.uk/leightonhousemuseum)، تتراجع وسائل الراحة الحديثة خطوة إلى الخلف أمام سحر الشرق. كان فريدريك، الذي حمل لقب لورد ليتون (1830 - 1896)، واحدا من كبار الفنانين في العصر الفيكتوري واشتهر بلوحاته التي تعكس الجمال الفاتر مثل «فليمينغ جون». ويعد منزله والاستوديو الخاص به على أطراف هولاند بارك في كنزنغتون واحدا من أبرز المنازل التي يعود تاريخ إنشائها إلى القرن التاسع عشر وتعكس الذوق الاستشراقي. وقد ظهرت القاعة العربية في ليتون هاوس مرات عدة في أفلام، وكخلفية في صور، وتضم مجموعة اللورد ليتون التي تزيد على 1000 قطعة من الآجر تحمل زخارف إسلامية، مما يجعلها واحدة من أكثر الأماكن تميزا في لندن. أما قطع الآجر الزرقاء المزدانة بالنقوش التي يزدان بها الكثير من باقي أرجاء الغرف العامة من تصميم ويليام دي مورغان تضفي على المكان برمته مناخا عاما يوحي بالفخامة والثراء.

تأسس المنزل عام 1864 وجرى توسيعه على مدار العقود التالية، ويتلألأ المنزل برمته ويبدو كما لو أنه بني حديثا منذ إعادة افتتاحه في أبريل (نيسان) بعد عملية تجديد شاملة صممت لجعله يبدو بالصورة التي كان عليها في حياة ليتون. داخل المنزل، تنتشر الكثير من أعمال ليتون بجانب أعمال لفنانين آخرين معاصرين له من العصر الفيكتوري، مثل جون إيفيريت ميليس، وجي إف واتس، ولورانس ألما تاديما.. ومن الواضح أن ليتون اعتبر منزله السبيل الأمثل للترويج لنفسه كفنان ذي حس جمالي رفيع، وقد وفر له المنزل في الكثير من الأحيان قدرا بالغا من الترفيه والمتعة. ومع ذلك، لم يحظ الضيوف بقدر كبير من الراحة لأن المنزل لم يضم سوى غرفة نوم واحدة تخص ليتون.

في خضم منطقة هايد بارك كورنر التي تغص بحركة المرور، قد يغفل البعض منزل أبسلي، المعروف أيضا باسم متحف ويلينغتون (أبسلي هاوس، 149 بيكاديلي، 44 207 499 5676)، أثناء تحركهم ما بين قصر بكنغهام ومتجر «هارودز». ومع ذلك، يبقى المنزل جديرا بالتوقف عنده، على الأقل لمشاهدة التمثال الرخامي الضخم «مارس صانع السلام» الذي صنعه كانوفا تمجيدا لنابليون، القائم في بهو المنزل قرب الدرج. وقد تحدث دوق ويلينغتون الحالي، الذي يعيش لبعض الوقت في الطابق العلوي من المنزل، كيف أنه كان يحرص على عدم الطرق على التمثال الصغير الرامز للنصر الذي يحمله تمثال نابليون بيديه لدى نزوله على الدرج عندما كان صغيرا.

وبعد إنزاله الهزيمة بنابليون في معركة ووترلو، أصبح ويلينغتون من أعظم القادة العسكريين في بريطانيا. وحصل كمكافأة على ذلك على ألقاب (مثل دوق) وعقارات (بينها هذا المنزل) وتدفقت عليه الهدايا القيمة. وعرفانا منه بدور ويلينغتون في الإطاحة بشقيق نابليون من فوق عرش إسبانيا، سمح الملك الإسباني فرديناند السابع للقائد البريطاني بالاحتفاظ بممتلكات ملكية مثل لوحة «سقا سيفي» لدييغو فلازكيز، التي تحتل حاليا مكانة بارزة بالطابق العلوي. كما حصل الدوق على مجموعة من الآنية الصيني والفضية من ملوك وأمراء أوروبت. وقد استغل هذه الآنية في المآدب التي كان يقيمها احتفالا بذكرى موقعة ووترلو، وهي معروضة الآن في الطابق الأرضي من المنزل. وتضم الغرف الموجودة في الطابق العلوي، المفتوحة أمام العامة، مجموعة من اللوحات مثيرة للإبهار كان يقتنيها ويلينغتون. ومن الواضح أن القائد العسكري البارز خاض معركة مع مصممي الديكورات لا تقل ضراوة عن تلك التي خاضها أمام الفرنسيين، حيث أصر على وجود الستائر الحريرية الصفراء في الغرفة المخصصة للحفلات، رغم أنها قتلت التأثير الثري الزخارف المعمارية الأنيقة.

ربما لا يوجد في لندن بأسرها متحف منزلي يحظى بقاعدة جماهيرية أشد إخلاصا من تلك التي يتمتع بها متحف سير جون سوان (13 لنكولنز إن فيلدز، soane.org). كان سوان (1753 - 1837) من بين أعظم المعماريين البريطانيين، وقضى الأعوام الـ20 الأخيرة من عمره في توسيع منزله في «لنكولنز إن فيلدز» من خلال شراء منزلين مجاورين. وقد فتح المنزل أمام الجمهور قبل وفاته ونجح في استصدار قانون من البرلمان يضمن الإبقاء عليه على الصورة التي سيتركه عليها بأقصى درجة ممكنة. حاليا، يجري تنفيذ مشروع تقدر تكلفته بـ6 ملايين جنيه إسترليني كي تتاح أمام الجمهور فرصة مشاهدة الغرف التي استخدمت كمكاتب منذ تحويل المنزل إلى متحف عام 1837.

الملاحظ أن متحف سوان يعكس نهجا متميزا من الطابع البريطاني، بما يحمله بداخله من خصوصية وتنظيم شديد وسحر بالغ. وتعج الممرات والسلالم، بل وغرفة اللبس الخاصة بسوان بالتماثيل والقطع المعمارية، بينما تحوي مكتبته أكثر من 10000 مجلد. وقد أضاف سوان إلى المنزل قبابا وفتحات في السقف تسمح بدخول أشعة الشمس، ومرايا موزعة بعناية في مختلف أرجاء المنزل لعكس ضوء النهار في مختلف أرجاء المنزل.. بما فيها القبو.

وتزدان جدران المنزل بسلسلة لوحات هوغارث الشهيرة بعنوان «تقدم ريك»، وتحكي اللوحات قصة شخصية خيالية كانت تعيش في لندن، يدعى توم ريكويل، يقوده بذخه المفرط إلى الفقر المدقع والجنون. ولا شك أنها مفارقة أن تعلق هذه اللوحات على جدران منزل رجل ضاعف مساحة منزله ثلاثة مرات كي يتمكن من عرض جميع مقتنياته الأثيرة به.

* خدمة «نيويورك تايمز»