«مجانين».. موقع يثير فضول العقلاء على صفحات الإنترنت

صاحبه قال لـ «الشرق الأوسط»: رسالتي إعادة الثقة إلى نفوس ضلت الطريق في متاهة الحياة

د. وائل أبو هندي، أستاذ الطب النفسي في جامعة الزقازيق، يقول إن رسالة الموقع تتلخص في كسر الحواجز بين المجتمع العربي والثقافة النفسية («الشرق الأوسط»)
TT

الأسرار التي يستفيض في روايتها زائر العيادة النفسية وهو ممدد على مقعد مريح تحت أضواء خافتة أمام الطبيب، لم تعد كما كان في الماضي طي الكتمان، بل أصبحت متاحة الآن، يقرؤها الجميع على صفحات الإنترنت. قد يكون الأمر مثيرا للتعجب، خصوصا أن المرء عادة ما يحب أن يدفن أسراره النفسية داخل بئر خاصة، ولا يلجأ إلى البوح بها إلا حينما تضطره أعراض لا يعرف لها تفسيرا إلى هذا. لكن الطريف في الأمر أن نشر هذه الأسرار يحدث الآن برغبة ملحة من المترددين على «عيادات نفسية إلكترونية»، ويرون فيها بديلا مناسبا عن حرج زيارة العيادات النفسية في مجتمعنا العربي المحافظ، الذي لا يزال كثيرون فيه يعتبرون زيارة الطبيب النفسي أمرا جللا، ليس كزيارة أي طبيب متخصص في فرع آخر.

وبين روايات الفتيات الحائرات، وأسرار غرف النوم، وتساؤلات الشباب المضطرب، يماط اللثام عبر مواقع الاستشارات النفسية عن مفاجآت صادمة قد لا يمررها العقل العربي بسهولة. فهؤلاء أطفال في عمر الزهور تشي تساؤلاتهم بإدراك ما لا ينبغي إدراكه في سن البراءة، وهذا ولي أمر يعجبه دور الذئب بدلا من الاستماتة في حماية رعيته، وهذا شاب يخشى انفضاح ستر عذريته كما تخشى العروس ليلة الزفاف.

تجربة تقديم الاستشارات النفسية عبر الإنترنت، التي كان موقع «مجانين» الإلكتروني واحدا من روادها، أثارت ردود فعل صاخبة في العالم العربي، البعض يؤيد بشدة، والبعض يندد، وآخرون يراقبون التجربة عن كثب مع بعض التحفظ.

عن هذه التجربة يقول لـ«الشرق الأوسط» الدكتور وائل أبو هندي، أستاذ الطب النفسي في جامعة الزقازيق، مؤسس ومدير «مجانين دوت كوم» الذي أثار عددا من الزوابع في أوساط المتخصصين في الطب النفسي والأوساط الاجتماعية مؤخرا: «بصراحة شديدة، ووجهت بالكثير من الانتقادات بسبب اسم الموقع، الذي قال بعض منتقديه إنه يحوي الكثير من الفوائد التي لا يوحي بها اسمه لأول وهلة، ولكني كلما جوبهت بهذه الانتقادات ازداد إصراري على هذا الاسم، فزوار الموقع الذين انتقدوا الاسم، فعلوا ذلك بعدما زاروه، وهذا يعني أن الاسم نجح في جذب الزوار. كما أنني لا أخفي سرا إذا قلت إن لي رسالة ما أريد إيصالها بتسمية الموقع بهذا الاسم، فأنا أريد أن أزيل ما لحق بهذا المفهوم من غبار وأفرق بين من يسميه الناس مجنونا ومن هو فاسد العقل. فالذين تلصق بهم تهمة الجنون عادة ما يكونون من المجددين المبدعين، بل إنهم قد يكونون من الذين يحوزون الحق الخالص، ولكن المحيطين بهم غارقون في جهل مطبق يدفعهم إلى رميهم بالجنون. وكلنا يعرف أن من الأنبياء عليهم السلام من رمي بالجنون لمجرد أنهم صدعوا بما أمرهم الله من حق. قال تعالى في سورة (الذاريات): (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ). ولهذا فإنني أرى في اسم (مجانين) اختصارا غير مخل بهذه الرسالة التي تعيد الثقة إلى نفوس الذين يرمون بهذا الاتهام، فبين الجنون والإبداع علاقة وطيدة تدعمها الدراسات العلمية».

وحول قصدية الموقع في إحداث صدمة لدى القراء يقول: «لا أكذب عليك إن قلت إن هذا هو المطلوب أو المقصود. فقد كشفت التساؤلات التي ترد إلينا عن مآس لم يكن لأحد أن يرويها وجها لوجه مع الطبيب المعالج، كما أن تواتر التساؤلات الخاصة بموضوع معين تكشف عن مدى حجم ظواهر كانت لعهود مستترة لا يعرف أحد مدى استشرائها، وبالتالي لا يجري علاجها كظواهر اجتماعية. إن جل ما نفعله هو تحري الصدق في التساؤلات المرسلة، فلا نلجأ إلى بث الرسائل التي نرى بين سطورها ما يشي بالاختلاق أو التزييف».

ويبرر أبو هندي بعض الاستفسارات التي لم تكن مقبولة في مضمونها خصوصا في العالم العربي مثل الحوادث التي تسمى «غشيان المحارم» بقوله: «عدم قبول مثل هذه المشكلات اجتماعيا لا يعني عدم وجودها. صدقني، أنا نفسي أشعر أحيانا بالصدمة حينما أقرأ بعض المشكلات، وأحيانا ما أكتشف أن نوعا من المشكلات كثيرا ما كنت أعتبره فرديا وغير قابل للتكرار هو في الحقيقة شائع ومستشر لحدود لم يكن أحد يفكر فيها. وهذا النوع من الاعترافات قد يكون وجد ضالته من وراء شاشة الكومبيوتر كي يعبر عن نفسه ويجد طريقه نحو النور».

ويعترف هندي بأن فكرة العيادة النفسية الإلكترونية بصورة عامة ليست بديلا عن زيارة الطبيب بشكل مباشر، حتى تتوافر عناصر التشخيص السليم للمرض النفسي، لكنه مع ذلك لا يرى ما يقوم به الموقع من إخلال بالعلاج. وبحسب قوله: «(مجانين) موقع للاستشارات النفسية وليس بديلا بحال من الأحوال عن زيارة الطبيب النفسي. وبالتالي لا مجال للحديث عن التشخيص السليم للمرض، فما نقدمه من خلال الإجابة عن التساؤلات يصب في إطار النصائح العامة التي يمكن من خلالها ترقية الوعي النفسي وتبادل الخبرات. بل إنني أزعم أن الهدف الرئيسي من الموقع الذي أسسته ليكون لسان حال (الشبكة العربية للصحة النفسية الاجتماعية) لم يكن إراحة القلقين والمرضى النفسيين بقدر ما يستهدف إقامة جسر للتواصل بين الأطباء النفسيين والأخصائيين المشتغلين بالصحة النفسية والاجتماعية، لأن كلا منا لديه خلفية تعليمية متباينة. إن لدي إيمانا عميقا بأنه على الرغم من تباين الخلفيات العلمية لكل منا فإننا ذوو خلفية ثقافية واحدة تؤمن بالله. والموقع يدعو إلى التواصل مع جذورنا الثقافية الفكرية كي يجري تحسين التعامل مع من حولنا في المجتمع».

ولا ينكر الهندي ما أشيع عنه من أنه من مكافحي اللجوء إلى رجال الدين في حالة الأمراض النفسية، ويقول (بنبرة غضب): «إننا نعيش في مجتمعات يلعب فيها الدين الدور المسيطر، ولكن هذا لا يعني أن يفتي كل شخص في ما لا يخصه، والذهاب إلى رجل الدين في حالة التعرض لمرض نفسي أو عقلي أمر شائع في البيئات الريفية لدينا، وهذه ظاهرة خطيرة يترتب عليها الكثير من المآسي التي لا سبيل لحصرها، ولكن يكفيني أن أذكر لك ما رواه الزميل د. محمد شريف سالم عن مريض الصرع الذي أتاه لعيادته فوصف له العلاج المثبط لكهرباء المخ الزائدة المسببة للنوبات التي أحالت حياته وحياة أهله إلى جحيم. وبحمد الله تحسنت حالته بعد انتظامه في تناول العلاج الدوائي والتحق بالعمل في مصفاة بترول وابتسمت الدنيا له. ولكنه أراد أن يتزوج ففضل استشارة أحد المعالجين الدينيين، وهو خطيب مسجد، فأشار عليه بالامتناع عن الدواء لأن ما ألم به من صرع إنما هو من (لبس الجان الذي لا بد من إخراجه ليتوقف الصرع)، فأوقف الشاب تناول الدواء بصورة مفاجئة، مما أسفر عن انقلاب سيارته فور أن قادها، وحينما أحضر إلى المستشفى أقنعه الزميل بالعودة إلى الدواء، ولكنه عاد وزار المعالج وكف بعدها عن تناول الدواء فوقع له حادث مروع أعلى جسر هذه المرة، وقابله زميلي في غرفة الرعاية المركزة وحالته يرثى لها. إننا لا نحارب اللجوء إلى الله والتداوي بكلماته، فللإيمان قدرة لا يضاهيها دواء على شفاء جروح النفس. ولكننا نواجه التجارة بالدين وتداخل الاختصاصات والإفتاء بغير علم».

ويرى هندي في شيوع مصطلح «طب النفس الإسلامي» امتدادا لفكرة موقع «مجانين» ويقول: «قد لخصتها في كتاب صدر عن دار النهضة عام 2002 بعنوان (نحو طب نفسي إسلامي)، وأردت من خلاله دحض الأفكار المغلوطة التي روجها الإعلام عن الطبيب النفسي في مجتمعاتنا الشرقية، خصوصا تلك التي يرددها البعض بأن الطب النفسي دخيل على مجتمعاتنا، وهو من نبت الحضارة الغربية، وأردت من خلاله التركيز على أن الطبيب النفسي المسلم هو فرد من أفراد مجتمعه يدين بما يدينون به ويعتقد ما يعتقدونه، وما نهله من مناهل العلم وممارسته الطب النفسي إلا محاولة منه للانتفاع من هذا التخصص في خدمة مجتمعه، واضعا ذلك كله في إطار من ضوابط دينه. وبهذه الطريقة يمكن مواجهة أدعياء الطب وعدم الاكتفاء بالأسف على هذه الظواهر المدمرة صحيا واجتماعيا دون انتشال أصحابها من عثرتهم وإزاحة الغمة من فوق أعينهم».

ويفسر مصطلحات نفسية معربة يتداولها الموقع مثل «الإرجاز» و«عسر الجماع»، وهي مصطلحات غير شائعة بين جمهور الأطباء النفسيين، قائلا: «إن من بين هذه الحواجز حاجز اللغة والمصطلحات العلمية التي كان البعض يرى استحالة في نقلها إلى العربية، ولكني لا أزعم أن هذه المصطلحات من ابتكارنا، إنها خلاصة دراسات قام بها آخرون وأسهم موقعنا في التوعية بها نظرا إلى دقتها في الوصف».. ويضيف: «إنني في النهاية أحب أن أوضح أنه من السهل أن ندير للأفكار المغلوطة التي يحفل بها مجتمعنا ظهورنا، مريحين ضمائرنا باتهام ثقافتنا كلها بالتخلف والرجعية، ولكن الموقع محاولة جادة ناجحة إلى حد بعيد في إرساء مفاهيم صحيحة عن الطب النفسي وزرع بذور الثقة بين المرء والطبيب النفسي، بل كشف عوار بعض الأطباء النفسيين في بعض الأحيان».

وأخيرا يستشهد صاحب موقع «مجانين»، وكدليل على النجاح عدد زوار الموقع، وتزايد المشاركات فيه، مشيرا إلى أن هناك الكثير من الرسائل ترد إلى الموقع «أضعها وساما على صدري رغم أني لم ألتق بأصحابها، حيث يروون فيها كيف تم التمكن من إقامتهم من عثرات كادت تغير مسارات حيواتهم» ويذكر منها، رسالة كتبتها صحافية أصبحت الآن مديرة لتحرير إحدى الصحف تقول فيها: «أتيتكم طفلة تائهة تتخبط وتركتكم كاتبة ومؤلفة وصحافية، لقد اكتشفت نفسي في (مجانين)، بكل فخر، هذا وسام على صدري».