«الكليجا» موروث شعبي تحول إلى سلاح لمواجهة ظروف الحياة الصعبة

بينما تشهد القصيم مهرجانا في نسخته الثالثة

إحدى العاملات وهي تحضر أكلة المطبق الشعبية («الشرق الأوسط»)
TT

المتمعن في تاريخ ما يعرف في السعودية بـحلوى «الكليجا»، ذات الصيت الذي تخطى حدود المملكة إلى دول الخليج المجاورة، لا بد أن يشعر بنوع من نكهتها، التي تتفرد بها عن سواها، منطقة القصيم، وسط المملكة، التي يعود تاريخ هذا الموروث النجدي البحت لها.

بمعنى آخر، إن من يتذوق «كليجا» القصيم، خصوصا تلك التي تصنع بأنامل سيدات من كبيرات السن، اللاتي يتفردن بالمذاق والنكهة الأصلية لـ«الكليجا» التي باتت أحد الرموز التي تعرف بها تلك المنطقة بقراها.

وفي الغالب ما تشهد أجنحة تلك المنطقة في المهرجانات الوطنية أو الخارجية وجود تلك الأكلات الشعبية، التي تأتي الكليجا على رأسها، وهنا يجب الحديث عن مهرجان «بريدة» السنوي، الذي بات يأخذ موقعا مهما في قائمة المهرجانات في المملكة وفي الخليج بأسره.

وتسخر الكثير من الأسر المنتجة «الكليجا»، إلى سلاح مهم لمواجهه البطالة بين الفتيات والمطلقات، خصوصا اللاتي يعولن أبناء بحاجة لتوفير مصروفات يكون مصدرها مثل تلك المنتجات الشعبية.

«أم سعود»، إحدى العاملات في مهرجان الكليجا الثالث، أفصحت عن إنتاجها ما يربو 100 طبق شعبي خاص بالمنطقة، من الأطباق التي تشتهر بها المنطقة، لا سيما ما تحوي أشكالا من اللحوم، كـ(لحوم الإبل والأغنام) وتختص كل فئة من تلك الأطباق بفوائد غذائية معينة.

وعند دخول الصالة المخصصة لعرض ما تنتجه أيادي سيدات المنطقة، تقف أم سعود وأمامها صاج طويل تستخدمه في إعداد «المطبق» الذي يلقى إقبالا من زوار المهرجان، إلا أن الزحام يبقى هو الهاجس الوحيد الذي بات يؤرق السيدة أم سعود ومن يعملن معها في ذات المهمة، وهنا قد تفقد الصبر، نظرا لرائحة المطبق الشهية، ولكي يتذوق أحدهم شيئا من أكلة «المطبق» لا بد من دفع ضريبة الزحام التي تجبره على الانتظار لبضع دقائق، ريثما تنتهي من إعداده «أم سعود»، التي أكدت في حديث لـ«الشرق الأوسط» أنها تتقن إلى جانب «المطبق» إعداد الأكلات الشعبية بأنواعها، وإعداد أصناف من المشويات، التي تختص بها منطقة القصيم عن غيرها، والتي تحوي «تتبيلة» خاصة، لا تجدها إلا عند كبيرات السن من السعوديات.

وجاء تفرد أم سعود بإعداد «المطبق» من بين 300 أسرة منتجة، سببا في أن الإقبال عليها كبير من جانب العائلات الذين يتوافدون على المهرجان عصر كل يوم في المواقع المخصصة.

أم سعود تصف تجربتها في معرض حديثها، وتؤكد أن مشاركتها في المهرجان في نسختيه السابقتين، أسهمت في تغيير وضعها المادي بنسبة 90 في المائة، وأصبح لها عملاؤها الخاصون ممن تقوم بتلبية طلباتهم من الأكلات الشعبية التي تتفرد بها عن سواها.

وترجع أم سعود احترافيتها في طهي الأكلات الشعبية إلى «سر المهنة» الذي ترفض الإفصاح عنه. وتشير إلى أن تلك الخلطة السرية هي أساس خلطتها المستخدمة في المطبق، التي تقوم بإرسال بعضها بعد تجميدها إلى زبائنها داخل المنطقة وخارجها، لكي يعدوا المطبق بأنفسهم بعد تلقيهم بعض الإرشادات البسيطة، مشيرة إلى أنها تشارك في المهرجان داخل منطقة القصيم، إلا أن مهرجان الكليجا هو الأقرب إليها لأنها لا تستطيع الانتقال إلى أماكن بعيدة لظروفها الاجتماعية القاهرة.

وأضافت أم سعود أن أعلى طلبية تم طلبها كانت 100 مطبق في يوم واحد، حينها أعلنت حالة الاستنفار القصوى لصالح طالبات إحدى الكليات في نشاطها المفتوح بمقر دراستهن.

وعند سؤالها عن الاشتراطات الصحية، ذكرت أم سعود أنها تحرص على سمعتها وصحة زبائنها، بتطبيقها شروطا صحية مناسبة، خاصة أن البيض يدخل في الخلطة المستخدمة.

وعلى الرغم من احتياج أم سعود وغيرها من الأسر المنتجة ماديا، وهو ما دفعهم إلى المشاركة في المهرجان لتحسين أوضاعهم فإنها واحدة من بين مئات من السيدات ما زلن يحافظن على الكرم والضيافة التي لا بد من القيام بها، حيث أصررن على عرض نماذج من أطباقهن للجمهور الذين إن لم يشتروا فعليهم أن يتذوقوا على الأقل. وأعربت أم سعود عن أملها في تكرار تلك المهرجانات التي لها الفائدة الاجتماعية والاقتصادية المهمة.

وفي الجانب الآخر، تقف أم سعيد على أطراف مهنة تختلف عن التي تمتهنها أم سعود، لكن ما ينتج لدى أم سعيد، يجد إقبالا واسع النطاق، وهي «حياكة أوراق النخيل بعضها البعض بعد تجفيفها، وذلك لإنتاج السفرة التي توضع عليها الأطعمة، وتستخدم لتنظيف الأماكن»، وامتهنت أم سعيد تلك الحرفة لأكثر من 50 عاما وتعتبر مصدر دخلها اليومي.

بتلك الصنعة أرجعت أم سعيد لأهالي القصيم، خصوصا ممن يهتمون بزراعة النخيل، إنتاج منتجات تقليدية لا تزال تجد طلبا، فهي تمتهن (تصفيف السف) مستخدمة جريد وسعف النخل لأشغال منزلية مثل (المحدرة والسفرة والمنسفة والمطحن) وتقول إنها تعلمت الحرفة من والدتها وجدتها وهي في مقتبل العمر.

وتشارك أم سعيد في مهرجان الكليجا للعام الثالث على التوالي بعرض منتجاتها الشعبية، وتقوم بـ«السف» أمام مرأى الزوار. وحرصت أم سعيد على الحفاظ عليه من الاندثار، خلال تدريبها لفتيات حرصن على هذا النوع من الحرف عبر دورات نظمتها الجمعيات النسائية بالمنطقة، بغية جعلها قدوة لهن يسرن على نهجها ويتبعن خطواتها، ويستخدمنها كوسيلة لكسب العيش.

إلى ذلك، ذكر عبد الرحمن السعيد، نائب الرئيس التنفيذي للمهرجان، أنه ومع دخول العام الثالث للمهرجان، فالحضور ما زال يحظى بإقبال كبير من الزوار، وجار الإعداد الآن لإصدار إحصائية عن أعداد الزوار للمهرجان.

واقتنى زوار مهرجان الكليجا الثالث إبداعات الأسر المنتجة من حقائب، وملابس، إذ أظهر النساء اهتماما بزينة الشعر والأطواق والماكياج وألعاب الأطفال، مما أثبت قدرتهن على الإنتاجية والابتكار وذلك من خلال صالتين سميتا «إبداعاتي».

وأكد رئيس لجنة الشؤون التنظيمية والمالية في مهرجان الكليجا الثالث، خالد البلهان، أن اللجنة التنفيذية عندما خصصت مثل هذه الصالات واختارت لها هذه المسميات تحديدا، كان ذلك لإيمانها بقدرة الكثير من أمهات وفتيات الأسر المنتجة على الإبداع والابتكار، ولذلك منحت لهن الفرصة للمشاركة في هذه الصالة وعرض وتسويق إنتاجهن وإبداعاتهن أمام الزوار.

وعبر عدد من زوار مهرجان الكليجا الثالث عن تشجيعهم لدعم الأسر المنتجة وأن حضورهم كان بهدف دعم هذا المهرجان، وخصصت الفترة المسائية للعائلات، والصباحية للأفراد، ليتمكن الزوار على ما تعرضه الأسر المنتجة من مأكولات شعبية من أهمها الكليجا (والمعمول والفتيت والحنيني والجريش والقرصان والمصابيب والمرقوق والمطبق والكبسة السعودية) بأنواعها، بالإضافة إلى عدد من (الحرف اليدوية والنسيج وأعمال السدو وغزل الصوف والخياطة) التي يتم العمل فيها بأيدي حرفيات.

هجاج الحربي زائر من مدينة حائل، أحضر عائلته من مدينة حائل لحضور المهرجان، قال لـ«الشرق الأوسط» إن المهرجان يعوض عن عناء السفر، وقال إنه وأسرته يحرصون على اقتناء بعض الحرف اليدوية التي تعرض في هذا المهرجان، بينما قال عبد الله الحركان الذي قدم من مدنية الرياض إن المأكولات وما يعرض في المهرجان من المنتجات والمأكولات الشعبية والحرف والأعمال اليدوية تجعله جديرا بالزيارة والاهتمام.

أما أسامة حلمي، مصري الجنسية، فقد أبدى إعجابه بمنتج «الكليجا»، مبينا أنه من العشاق له الذين يتلذذون بطعمه ويحاولون الحصول عليه وفق الطريقة الأصلية التي يعد بها بعيدا عن المصانع والآلات الحديثة، كما أنه وجد في المهرجان فرصة سانحة لمعاينة الأكلات الشعبية السعودية.

ويرى عدنان الأسود، قدم من سورية لزيارة أبنائه في مدينة بريدة أن منطقة القصيم تمسكت بالموروث القديم، وهذا ما ساعدها على التفاخر بما تنتجه هذه المنطقة.

أما عصام كردي، سوري الجنسية يعمل مندوب مبيعات، فيقول: «ذهلت من الدعاية والتسويق للمهرجان، فقد قرأت كثيرا عنه في اللوحات الإعلانية والنشرات الإعلامية المنتشرة في المدينة وسمعت حوارا لمسؤولي المهرجان عبر الإعلام المسموع, وهذا يعني أن المهرجان يدار باحترافية ممزوجة بالخبرة التسويقية.

ورأى الزائر سليمان البطاح من محافظة الرس، أن المهرجان يتميز بجمالية معينة، وتمنى أن يكون هناك تنوع في صناعة الكليجا لإرضاء كل الأذواق وإبداع أشكال أخرى غير التقليدية بدلا من شكله المتكرر ونكهته شبه الموحدة بين البائعات.

وتقول أم أحمد من محافظة البدائع (التابعة لمنطقة القصيم)، إنها لم تتوقع أن تحظى الكليجا بهذا الإقبال الكبير اعتقادا بأنها تحولت عن الرغبات، في ظل وجود البدائل لها من الحلويات وغيرها وتمنت النجاح للمهرجان.

الزائرة سلوى فهد، رأت أن الاقتناء بعض الحرف وشراء الكليجا والمعمول الذي تحرص أن يكون موجودا في منزلها معظم الأيام لما له من قيمة غذائية وفوائد صحية.

ويشكل مهرجان الكليجا الثالث تجمعا مهما من الكثير من أسر المنطقة، وذلك لاستعراض ما تنتجه الأسر التي باتت تشكل أحد عوامل تكدس وخسائر فادحة لمعظم المطاعم العاملة في منطقة القصيم.

ويتعزز ذلك بعد أن شهدت أغلب المطاعم بالقصيم تناقصا في الأرباح التي تحققها، ورجعت بعض المصادر باختفاء المطاعم لمدة خمس سنوات مقبلة.

وشمل هذا التطور بالمهرجان دخول الشباب إلى المهرجان، وذلك عبر قيام مجموعات منهم بالانخراط في رحلات برية والقيام بأعمال الطبخ والتجهيز للأكل، ومحاولة التسويق لأنفسهم عبر هذا المهرجان.

ويحاول المنظمون لهذا المهرجان توسيع فكرة هذا المهرجان وإنشاء فروع له في مناطق الرياض والدمام وجدة، ليشمل بذلك مناطق المملكة.

وحظي المهرجان هذا العام بزيارة بعض رجال الأعمال، وذلك لدعم المهرجان ودعم الجمعيات التي تشارك فيه.

وقدمت المرأة السعودية في هذا المهرجان نفسها كبائعة محترفة تستقبل الزبائن بكل أريحية ورقي، حيث يفاجأ الزائر عند قربه من أحد المحال بفنجان القهوة يمتد إليه من يد البائعة، وشيء من المأكولات.

وفي تصريحات على هامش المهرجان، أكد حمد آل الشيخ، مدير البرامج والمنتجات السياحية في الهيئة العامة للسياحة والآثار، أن الهيئة تلعب دورا عبر العمل مع الشركاء في منطقة القصيم لإيجاد رؤية لمهرجاناتها، التي من بينها توجيهها لإشراك المجتمع، وهو ما يتحقق فعليا في مهرجان الكليجا، الذي يأتي بتوجه مختلف، بعيدا عن الترفيه ويخدم المجتمع، وهو ما تم بحثه والتأكيد بالعمل عليه مع الشركاء، إضافة إلى التركيز على التدريب والتسويق.

ولفت آل الشيخ إلى أن الهيئة العامة للسياحة والآثار تبحث عن تطوير المهرجانات عبر الدعم الفني والنواحي التنظيمية والأهداف التي تحققها ومدى ارتباطها بالمجتمع المحلي، وهذا ما تؤكد عليه الهيئة بأن السياحة من المجتمع وللمجتمع.

بينما أكد منصور الفريدي، رئيس اللجنة الإعلامية لمهرجان الكليجا الثالث، على الأثر الاجتماعي والاقتصادي على الأسر المنتجة بلا ريب ويترك بصمته عليها بعد انتهائه، فهو يحقق لها إيرادات في أيامه العشرة، تفوق أحيانا ما تحصل عليه خلال العام.

ولفت الفريدي إلى أن المهرجان أبرز المواهب المدفونة لدى الكثير من أفراد الأسر، سواء في الطبخ أو الحرف اليدوية والأعمال الفنية وتقديمها للمستهلك، مضيفا أنه ما زال يشهد إقبالا كبيرا من الزوار من كل الجنسيات والأعمار والفئات ولم تحد برودة الطقس من الإقبال.

وكانت اللجنة التنفيذية للمهرجان، قد أعلنت سابقا عن تجاوز زوار المهرجان 100 ألف زائر، وحقق إيرادات تفوق 1.6 مليون ريال لكل المعروضات، من منتجات الأسر والمراكز الإنتاجية ومعارض الشركات المشاركة. وتوقع الفريدي أن يكون اليوم قد تجاوز العدد بالنسبة للزوار والإيرادات بكثير، إلا أنه لم يعط رقما معينا، وطلب التريث لحين الانتهاء من الإحصاء التالي رسميا، وسيتم الإعلان عنه في حينه، ولفت إلى أن نهاية المهرجان ستكون في نهاية الأسبوع.