جراح أميركي مولع بالاحتفاظ بتذكارات من عملياته

اتسم بميول فنية وعبقرية ميكانيكية > معرض لمقتنياته التي تزيد على 2000 جسم

صور أشعة لبعض الأجسام الغريبة التي استخرجها الدكتور جاكسون من أجسام المرضى
TT

من الأنسجة المحيطة بالمخ، وصولا إلى الحصاة الصفراوية، حرص الأطباء منذ زمن بعيد على الاحتفاظ بعينات من أجساد مرضاهم - أحيانا كتذكارات، وأحيانا أخرى كوسائل تعليمية، وربما كعناصر فريدة مثيرة للفضول أو حتى كقطع فنية. إلا أن دكتور شيفاليير جاكسون تمادى في هذا الأمر لما هو أبعد عما بلغه معظم أقرانه.

تخصص جاكسون في مجال أمراض الحنجرة خلال نهاية القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، وقد احتفظ بأكثر من ألفي جسم ابتلعها أو استنشقها أفراد، بينها: مسامير وبراغٍ ومنظار مزدوج العينين شديد الصغر ومفتاح محرك سيارة ودبوس زينة وميدالية تحمل عبارة «احملني كي أجلب لك الحظ الطيب».

وقد استخرج جاكسون هذه الأجسام من الجزء الأعلى من الجذع، من دون مخدر أو بمخدر ضئيل في العادة. وقد اتسم جاكسون بتصميم بالغ على الاحتفاظ بالمواد التي يستخرجها من أجساد مرضاه، لدرجة أنه أصر على الاحتفاظ بربع دولار كان أحد مرضاه قد ابتلعه على الرغم من تهديد المريض له بالقتل.

وعلقت ماري كابيلو، مؤلفة كتاب «سوالو» (ابلع) من دار نشر «نيو بريس»، وهو كتاب جديد يتناول جاكسون ومجموعته الغريبة، بقولها: «لقد عانى داء الفيتشية لا شك، لكن هذا الولع المرضي ساعد في إنقاذ أرواح. ومن المذهل ومن حسن الحظ أن جنونه أنقذ آخرين».

اتسم جاكسون بميول فنية وعبقرية ميكانيكية وعشق للآداب الكلاسيكية ونزعة تجاه التصوف والتقشف. وقد وصفه أقرانه بالتكبر والبرود. وقد قضى مئات الساعات في سحق حبات فول سوداني للتعرف تحديدا على حجم قوة الضغط اللازمة لتحطيمها. وقد مارس تجارب موسعة على الكلاب.

في تلك الأيام، كانت العمليات الجراحية مرتبطة بمعدلات وفيات مرتفعة، وكان القليل فقط من الأطباء على استعداد، أو قادرين، على إمعان النظر في الممرات الهوائية وممرات الغذاء داخل الجسم، ناهيك عن إزالة أجسام منها مثل الدبابيس. ومع ذلك، أشارت كابيلو في كتابها إلى أن معدل البقاء على قيد الحياة بين مرضى جاكسون فاق 95%.

وأكدت كابيلو، وهي أستاذة للغة الإنجليزية بجامعة رود أيلاند، أنه «لو كان بمقدور جاكسون إخبارنا بالصورة التي يود أن نتذكره عليها، فأنا على ثقة من أنه كان سيفعل ذلك عبر جمع مقتنيات أو الفن التلصيقي ذي المغزى». بالنسبة له، كان جمع هذه المقتنيات بمثابة تعبير عن الذات، بجانب دلالاته الطبية والعلمية.

بوجه عام، نظر جاكسون للعالم باعتباره مكانا يعج بالأخطار. وفي طفولته، كان جاكسون ضئيل الجسد وكثير القراءة والاطلاع، وتعرض للكثير من المضايقات.. ففي إحدى المرات قام أطفال بوضع عصابة على عينيه وألقوا به في حفرة مليئة بالفحم، ولم ينقذه سوى عثور كلب عليه قدرا وهو فاقد الوعي.

وعليه، ترى كابيلو أنه من خلال عمله طبيبا - في البداية في بتسبورغ، ثم فيلادلفيا - أن جاكسون «كان ينقذ أرواحا بالفعل، لكنه كان أيضا ينقذ نفسه». وبمرور الوقت، تحول جاكسون إلى طبيب رائد في التعامل مع النصف الأعلى من الجسد، وطور تكنيكات المجواف التي تتيح للأطباء النظر داخل عتمة الجسم.

ونجح جاكسون في إضافة مصباح صغير لطرف قضيب كان يقوم بإدخاله في المجهر الذي يستخدمه (من قبل كان الأطباء الذين يستخدمون أدوات المجواف يعتمدون بصورة أساسية على مصابيح إضاءة خارج الجسد).

وكان من أوائل وأشد أنصار الاهتمام بالسلامة، خاصة فيما يتصل بالأطفال. وأشار أحد معاونيه إلى أن الهدف الأول لجاكسون في حياته كان تعزيز وعي العامة والعاملين بالحقل الطبي بأهمية توخي الحذر عند البلع.

وذكرت كابيلو أنه لو كان الأمر بيد جاكسون «لكان قطع أوصال الآباء والأمهات الذين يطعمون أطفالهم الفول السوداني من دون أن ينبهوهم لضرورة سحقها تحت الضرس». وقد شدد جاكسون دوما على ضرورة مضغ كل أنواع الطعام، بل وكثيرا ما نادى بأن «امضغوا الحليب!».

ومارس جاكسون ضغوطا لصالح تمرير القانون الفيدرالي لمكافحة التسمم الحارق لعام 1927، الذي فرض على الجهات المصنعة ضرورة وضع تحذيرات على المواد السامة مثل محلول القلي (يستخدم في صنع الصابون)، الذي يحرق المريء ويسبب ندبات حادة به تجعل عملية البلع مستحيلة.

وكثيرا ما كانت تقع حوادث يبلع خلالها أطفال محلول القلي لوجوده بكثرة في المنازل ولأنه كان يبدو شبيها بالسكر. من بين الحالات كانت طفلة في الـ7 من عمرها عجزت حتى عن ابتلاع نقطة مياه. وأدخل جاكسون مجوافا في جسدها، تحديدا في المريء، وأزال كتلة رمادية - ربما تكون طعاما أو أنسجة ميتة - باستخدام كُلاب الجراحين. بعد ذلك، قدم أحد مساعديه كوبا من الماء للطفلة.

عن ذلك الموقف، كتب جاكسون في مذاكرته عام 1938، يقول: «تناولت الطفلة رشفة صغيرة، يُتوقع أن يعقبها شعور بالاختناق وتتقيأها سريعا. لكن المياه تحركت إلى داخل جسدها في بطء. وتناولت الطفلة رشفة أخرى وتكرر الأمر. بعد ذلك، أزاحت برفق كوب المياه الذي كان المساعد يمسك به، وأمسكت يدي وقبلتها».

كما طور جاكسون أسلوبا جديدا لتوسيع المريء لدى الأطفال الذين تعرض المريء بأجسامهم لندبات؛ حيث عكف على تعليم الأطفال كيفية ابتلاع أنبوب طويل والقيام بهذا الأمر على نحو منتظم لفترة طويلة. واقترح عليهم أن يفكروا في أنفسهم باعتبارهم يبلعون سيوفا وأن يتخيلوا كيف أن هذا «سيبث الرهبة في نفوس أقرانهم». وقد نجح هذا الأمر في النهاية في مساعدة الكثير من الأطفال على الأكل والشرب بطريقة عادية من جديد.

من أجل إزالة أجسام مثل المفاتيح والعملات والدبابيس، كان جاكسون يدخل أنبوبا طويلا صلبا في أجسام مرضاه - الذين عادة كانوا من الأطفال وكانوا مستيقظين في العادة، لكن معاونيه كانوا يساعدون في السيطرة عليهم وإبقائهم ساكنين. وقالت كابيلو: «لا بد أنه كان يتمتع بدرجة كبيرة من اللطف والقدرة على تهدئة الآخرين»، كما حرص على علاج الكثير من الأطفال الفقراء من دون مقابل.

وعلى الرغم من ذلك، برزت في شخصيته سمات غريبة. وعن ذلك، أضافت كابيلو: «ربما صوره البعض كشخص وحيد غير اجتماعي يخلو من الود».

كما لم يقبل جاكسون تقديم أي تنازلات بخصوص مجموعة مقتنياته. في حالة ربع الدولار التي ابتلعها أحد مرضاه، أخبر جاكسون والد المريض الذي تملكه الغضب بأن «جميع الأجسام الغريبة التي يتم استخراجها من ممرات الهواء والطعام توضع ضمن مجموعة علمية تتاح أمام أطباء يعملون على تخفيف آلام أطفال صغار».

كان الأب قد ضرب ابنه عقابا له على ابتلاع العملة، وعندما عجز عن استعادتها ضربه بشدة مجددا لدرجة أنه كسر ذراعه.

حينئذ، قدم جاكسون له نصف دولار، لكنه احتفظ بالعملة التي كان الصبي قد ابتلعها.

والآن، أصبحت مجموعة مقتنيات جاكسون ملكا لمتحف موتر التابع لكلية الطب في فيلادلفيا؛ حيث يجري إعدادها للمشاركة بها في معرض يبدأ نشاطه في 18 فبراير (شباط). وستساعد كابيلو في رعاية المعرض. ووصفت أنا دودي، أمينة المتحف، كتاب كابيلو حول جاكسون بأنه إسهام كبير «نحن محظوظون للغاية به».

أما الدكتور في. ألين بوتومان، إخصائي أمراض المعدة بجامعة ميامي، الذي وضع أبحاثا حول جاكسون، فقد وصفه بأنه «رجل ينتمي لعصر النهضة حقا قدم الكثير من الإسهامات للطب. وعلى الرغم من ذلك، تعرض للنسيان». في أكتوبر (تشرين الأول) ألقت كابيلو محاضرة حول جاكسون داخل «أوبرزفاتوري»، وهو مكان مخصص للأعمال الفنية. كما عرضت أفلاما «أبيض وأسود» عن أسرة جاكسون كانت تعرض أمام العامة للمرة الأولى.

وفي سلسلة من اللقطات، بدا جاكسون في قارب صغير يتطلع نحو السماء. وفي أخرى يركب في شاحنة ويعكف على الكتابة بدأب.

بعد ذلك، تظهر حفيدته، التي كانت لا تزال في سنوات عمرها الأولى، أمام الكاميرا حاملة حيوانا محنطا وزهرة، ثم تقوم بتحريك الزهرة يمينا ويسارا أمام الكاميرا وتضعها في فمها.

* خدمة «نيويورك تايمز»