رؤساء ووزراء يزورون قرية «بن حمسان» لاكتشاف تراث الجنوب السعودي

ظافر الشهري لـ«الشرق الأوسط»: تسلقت جبال الفلبين للبحث عن أيد ماهرة في البناء الحجري

مجلس الاستقبال يتوسطه الصلل صمم بطريقة تحاكي مجالس الاستقبال قديما في عسير («الشرق الأوسط»)
TT

من رحم التحديات والمغامرات ولدت قرية تراثية عكف صاحبها على تطويرها لتصبح أهم معلم تراثي يستقطب كبار المسؤولين، ومنهم الرئيس الإيراني السابق رفسنجاني، ورئيس ماليزيا الأسبق مهاتير محمد، وولي عهد دبي، وولي عهد البحرين، ونائب الرئيس الأميركي للشؤون الأمنية، والأمير سلطان بن عبد العزيز ولي العهد، وغيرهم من وزراء ورؤساء من مختلف دول العالم، ليكتشفوا عبق الماضي الجنوبي بمفرداته وألوانه وأدواته، تحت صرح قرية بن حمسان التراثية، الواقعة في محافظة خميس مشيط جنوب السعودية.

«الشرق الأوسط» تجولت بين جنبات قرية بن حمسان التراثية لترصد أهم ملامح القرية، حيث استقبلها عند مشارف مدخل القرية، النباتات العطرية المزروعة داخل حاويات معدنية ورائحة البخور تملأ أركان المتحف، والماء المسكوب على الأرض المرصوفة بالحجارة، ليعكس عادة اتخذها النساء قديما، عند استقبال الضيف، وكانت أركان القرية تحوي دلال القهوة والموضوعة على أطراف الصلل وهو «حوض معدني يوضع فيه الجمر المشتعل» داخل مجلس الاستقبال الذي استقبلنا فيه صاحب القرية.

يقول ظافر الشهري صاحب القرية التراثية لـ«الشرق الأوسط» إن القرية تعكس فكرة كاملة ومفصلة عن الفن المعماري القديم بمنطقة عسير، التي ضمت 5 أنواع من النزل المعماري قديما، ليحتضن الزائر المعلومة المجسدة لكل ما اعتمد عليه الإنسان قديما في عملية البناء، وصورة ممثلة للعادات والتقاليد الشعبية التراثية، كالأكلات والأسواق والصناعات القديمة، ليعي الزائر أن دور المرأة قديما لم يكن محجما، بل طال فنا لم يوجد في ذلك الزمان، حيث أوكل لها فن تشكيلي لم يدرس ولم يلقن، لتوثقه على جدران منزلها، وهو فن نقوش «القط» التي تستخرج ألوانه من الطبيعة، ليصبح ذلك الفن مصدرا لدراسات عليا.

وتنقلت «الشرق الوسط» داخل قصور تاريخية، بنيت بطريقة تحاكي آلية البناء القديم بجميع تفاصيله، وبنفس الأسلوب، ليُختزل بداخلها تراث عظيم بدأ كفكرة صغيرة، ليصبح مزارا تراثيا ضخما. عن بداية القرية يقول الشهري «بدأت الفكرة عام 1397هـ بعمل ركن للديكور التراثي يحتوي على أهم وأجمل النقوش التراثية القديمة، سواء كانت من الأعمال الخشبية أو الفخارية أو الفضية أو الجلدية، التي أتقنت تصميمها وتنفيذها أياد فنية ماهرة، تنتمي إلى عائلات وقبائل عريقة، لتحقق بذلك شيئا من الاكتفاء الذاتي، دون الحاجة إلى استيراد أدوات البناء والزراعة من الخارج، فبهذا الشكل ولدت فكرة إنشاء مصنع لجميع الصناعات الخشبية والفخارية القديمة، لتحمل صورة ومسمى الأمس وعمل اليوم».

وأضاف «على ضوء الإقبال على أول متحف يقام في منطقة عسير الذي افتتحه الأمير فيصل بن بندر، نائب أمير منطقة عسير آنذاك، تخلقت لدي فكرة أول قرية تراثية في عسير، لأتقدم للأمير خالد الفيصل، أمير منطقة عسير سابقا، بطلب موقع داخل محافظة خميس مشيط، ليتم الموافقة على طلبي، نظرا لقناعة الأمير بمدى أهمية القرية في عملية الحراك السياحي التراثي، لتبدأ أولى خطوات تعميدي من قبل الأمير خالد الفيصل في تصميم وتنفيذ جميع اللمسات التراثية في قرية عسير بالجنادرية».

وحول إبداعه في إتقان عملية نقل التراث بصوره الحقيقية، قال بن حمسان «لم أستغن في عملي عن مشورة كبار السن رجالا ونساء، إذ يعود الفضل بعد الله عز وجل إلى والدي ووالدتي اللذين دعماني فكريا وعمليا ومعنويا».

ووقفت «الشرق الأوسط» على محتويات القرية التي تحاكي لغة تاريخية تراثية أبدع فيها الأجداد، في متحف عريق يضم ركنا لأدوات النقل المختلفة، وركنا لأدوات المواصلات القديمة، وركنا للطب الشعبي، إلى جانب ركن لأدوات الزراعة، وركن عكس أصالة أزياء المرأة قديما بكل أشكاله، وركن محاذ اختص بأزياء الرجل، وآخر يسمى الركن الوثائقي الذي احتوى على صور قديمة لبعض القرى قديما، وعرض مرئي يوضح عادات الحياة التراثية في ذلك الزمان.

اللافت للنظر في القرية، طريقة إعداد الطعام، التي قد تدفع المتذوق إلى أن يجزم بأن الطاهي امرأة متميزة في إتقان فن الأكلات الشعبية، ومنها «المشغوثة، والعريكة، والمبثوث، والمعصوبة، والرقشة، والتصابيع، والخبز البلدي، والمسيلة) وغيرها، هنا كشف ظافر الشهري عن سيدة من أشهر نساء عسير في إعداد الأكلات الشعبية، قائلا «عكفت والدتي، رحمها الله، على تدريب مجموعة من النساء اللاتي يعمل أزواجهن في القرية على مدار أكثر من 15 سنة، حتى أتقن خفايا وأسرار النكهات الشعبية في منطقة عسير، لينقلن كل ما تعلمنه إلى القرية، وبهذا تمكنا من تحقيق إيجاد الصبغة الحقيقية للموروث الشعبي، دون أن نخل بتوازن التراث الموثق حسيا ونظريا، فنحن نعتمد حتى في تقديم تلك الأكلات على الأواني الشعبية التي كانت تستخدم قديما في تقديم الطعام».

وفي سياق حديث ظافر الشهري اتضحت معالم المغامرات التي مر بها ليحقق حلما طالما راوده بدأ كهواية ليصبح واقعا مجسدا، حيث قال «عشقي للتراث دفعني إلى المغامرة والذهاب إلى بعض الدول الآسيوية لجلب عاملين يتمتعون بأعلى مقاييس الإتقان والمهارة، للعمل ضمن فريق القرية التراثية، حيث كنت على ثقة بأني سأجد من يتقن العمل في هذا الجانب، لذا شددت الرحال إلى الفلبين، لأتنقل بين مختلف الأماكن متسلقا الجبال بحثا عمن يجيد الأعمال الفخارية وبناء المنازل القديمة وغيرها، وبعد بحث ومعاناة كبيرة استمرت عشرات الأيام، تخللتها المخاطرة بنفسي، وخاصة بعد الانقلاب على الرئيس الفلبيني فرديناند ماركوس عام 1986، تمكنت من إيجاد ضالتي لأعود راغبا في تحقيق هدف ينهض بثمرة فكرة القرية التراثية».

وفي أحد أركان القرية، استوقفنا واستوقف الزوار عرض مرئي للأمير سلطان بن عبد العزيز ولي العهد، في زيارة سابقة له للمنطقة، اعتبر من خلال تصريح له أن «القرية مصدر عزة لكل فرد داخل وخارج السعودية، يفخر بتراثه»، ولفت في حديثه إلى أن الأمير خالد الفيصل أمير منطقة عسير سابقا لن يتوانى لحظة في تطوير القرية التراثية ودعم صاحبها ظافر الشهري، الذي أقام القرية بتمويل شخصي دون مساعدة خارجية.