البراعة والعناية والحظ المطلق.. تنقذ خريطة نادرة

رسمها بيرنارد راتزر لمدينة نيويورك عام 1770

يعتقد أن هناك 3 نسخ موجودة فقط من هذه الخريطة الدقيقة؛ إحداها كانت تخص الملك جورج الثالث وبقيت في المكتبة البريطانية بلندن (نيويورك تايمز)
TT

كانت الخريطة ملتفة بين خرائط صفراء ومطبوعات أخرى خرجت من شاحنة تسليم في مكتب جمعية بروكلين التاريخية الفخم بالقرب من النهر الشرقي. وبدأت كارولين هانسين، رسامة الخرائط بالجمعية، في فتح الخريطة القماشية برفق. وقالت هانسين (29 عاما)، التي كانت لا تزال تستعيد الذاكرة «يمكن للمرء أن يسمع تمزقها». وتوقفت هانسين عما كانت تقوم به. لكن تم فتح قدر كاف من الخريطة، التي تحول لونها إلى البني بفعل الزمن، وكانت جافة وهشة مثل رقاقة بطاطا قديمة، ليكشف عن اسم «راتزر».

وقال جيمس روسمان، رئيس الجمعية الذي تصادف وجوده داخل المبنى في ذلك اليوم، الموافق الاثنين، خلال شهر مايو (أيار) الماضي «لدينا خريطة راتزر». وكان هذا البيان، رغم المهابة في تقديمه، يعني القليل للآخرين في الغرفة، لكنه سوف يدوي قريبا في دوائر علم رسم الخرائط وبين علماء خرائط آخرين.

وتم ذكر اسم «راتزر» كشيء يشبه إبداعات الرسام الإيطالي الشهير ليوناردو «دافينشي» في تخصصه في علم رسم الخرائط لمدينة نيويورك، وكانت الخريطة نسخة مبكرة من أشهر عمل له وهو «خريطة بيرنارد راتزر لمدينة نيويورك في حالتها عام 1770».

وكان يعتقد بشكل واسع أن هناك ثلاث نسخ موجودة فقط من هذه الخريطة الدقيقة؛ إحداها كانت تخص الملك جورج الثالث وبقيت في المكتبة البريطانية بلندن حيث كانت تعرض من حين لآخر. وتتواجد النسختان المتبقيتان - واحدة قابلة للقراءة، والأخرى مدبوغة وداكنة - في جمعية نيويورك التاريخية على الجانب الغربي العلوي، ويحتفظ بها في المخزن، باستثناء مرتين أو ثلاث مرات سنويا، عندما يتم استخراجها من المخزن لعرضها على التلاميذ.

وأصبح تجديد هذه الخريطة الرابعة المفاجئة، التي يتجاوز عمرها 240 عاما، مع غلافها الورنيشي التالف، يمثل أولوية ملحة في بروكلين. تحويل هذه الخريطة من أثر غير ملموس حرفيا، إلى خريطة مقروءة بوضوح محفوظة في إطار زجاجي، ليتم الكشف عنها خلال حفل خاص في الجمعية ليلة الأربعاء الماضي، سببه عدة عوامل، منها العلم والصبر والبراعة الحرفية والدعوة العمل، وكان ذلك من خلال غلي الكتب القديمة التي استخدمت من أجل تقطير لون الورقة القديمة.

ولم يعرف أي فرد في جمعية بروكلين التاريخية ماذا كان مكتوبا في الخريطة. وتم تسليمها من مخزن الجمعية في ولاية كونتيكت. وقالت الجمعية إنها لم تكن تمتلك أي فهرس يدرج الخريطة أو يحدد متى تم الحصول عليها. وتم صقل الخريطة وتعليقها على الكتان، مع تعليق سارية خشبية في الأسفل، ربما لكي تضفي جوا فنيا إضافيا. وربما كان يمكن أن يتم تعليق الخريطة على حائط في أي مكان بالنسبة لشخص يعرف طول هذه الفترة، لكن في شهر مايو (أيار)، كانت اللوحة في حالة سيئة.

وتم قطع اللوحة إلى شرائط طويلة من أجل السماح بأن يتم لفها وتخزينها. وكانت الشرائط هشة جدا لدرجة أنها كانت تنكسر عند لمسها. وتطلب الأمر قدرا كبيرا من التدبر والتدقيق وحبس الأنفاس من أجل اكتشاف أنها كانت لوحة راتزر التي يعود تاريخها إلى عام 1770، وربما كان يمثل اسمها خطأ معينا، لأنه من الوارد أن يكون قد تم الانتهاء منها في عام 1769.

وكان الليفتنانت راتزر، الضابط بالجيش البريطاني، يعمل مساحا ورساما للخرائط، ولقيت خريطته ثناء فوريا ووصفت بأنها خطوة متقدمة مقارنة بخرائط سابقيه. والأمر الذي مثل مشكلة بالنسبة له هو أن اسمه كتب بشكل هجائي خاطئ على النسخ الأولية لخرائطه، التي أطلق عليها اسم «خطة راتزين». واحتوت الخريطة على وصف مفصل لمنحدرات الجزيرة والشواطئ والشوارع في مانهاتن السفلى، وهو المزيج الشائع لفترة انتهت.

وقال روبرت تي أوغوستين، المؤلف المشارك لأطلس «مانهاتن في خرائط: 1527 – 1995» (الصادر عن دار «ريزولي» الدولية للمطبوعات عام 1997) «تم رسم خريطة دقيقة لجزيرة مانهاتن، أو على الأقل الجزء المعروض هنا، بنفس دقة أي بقعة على الأرض في الوقت الحالي. ولم تكن هناك خريطة أكثر جمالا أو وضوحا تم إصدارها عن مدينة نيويورك من قبل».

وهناك مبان بارزة مثل «باودر هاوس» و«ذا سيتي هول» و«السجن» و«المسرح»، وأدرج راتزر تضاريس مفصلة مع الروابي والأحراش القريبة من كيبس باي وتورتل باي والتي كانت قد اختفت.

وقال ماثيو كنوتزين، أمين مكتبة جغرافي في قسم الخرائط بمكتبة نيويورك العامة «إنها واحدة من الطرق التي نعرف بها كيف بدا هذا المكان قبل أن يتم البدء في مد الشبكة الكهربائية بالفعل».

ويحتوي الجزء السفلي من الخريطة على توضيح مدهش لمنظر مانهاتن حسبما كانت تتم رؤيتها من جزيرة «غفرنز» مع السفن والجنود والأمواج والدخان. وتعتبر جزيرة بروكلين أو «بروكلاند» جزءا مرقعا من المزارع بظلال مختلفة، والتي يشطرها طريق فلاتبوش.

وهناك نسخة صدرت في ما بعد تعرف باسم الدولة الثانية، نشرت في عام 1776، تبدو مطابقة تقريبا للنسخة الأولى باستثناء سطر نصي صغير من الناشر، وتعتبر هذه النسخة أكثر شيوعا. وتم تقديم لوحة دولة إنجلترا 1770 إلى الملك جورج الثالث وبقيت في مجموعته الواسعة. وقال بيتر مايكل باربر، رئيس قسم المواد الخرائطية والطبوغرافية بالمكتبة البريطانية «منحه الناشرون واحدة بمجرد خروجها من المطبعة». وقدمت خريطتان صدرتا في عام 1770 من قبل جمعية نيويورك التاريخية كهدايا إلى مؤسسها جون بينتارد يوم 4 يناير (كانون الثاني) عام 1810، وفقا لدليلها. وسوف يجعل هذا الأمر تلك الخريطة هي الخريطة الرابعة في بروكلين، وأول خريطة يتم اكتشافها خلال 200 عام، باستثناء وجود نسخ أخرى غير معروفة لأمناء سجلات الخرائط. وقال كنوتزين «إنه أمر مهم تماما، ويشبه إبرة في كومة قش».

ويبدو مصدر خريطة بروكلين غير معروف بشكل محدود. وعلى خلفية الكتان الذي بدأت هانسين في فتحه خلال شهر مايو (أيار) الماضي، كان اسم بييربونت مقروءا بوضوح، وهو ينتمي لعائلة بروكلين البارزة. لكن لم يكن هناك أي مؤشر على كيف أو متى قدمت هذه الخريطة إلى مخزن كونتيكت، حسبما ذكرت الجمعية.

وخوفا من التسبب في حدوث ضرر إضافي، استدعت الجمعية جوناثان بي ديرو، المتخصص في حفظ الأوراق بضاحية «بارك سلوب» والذي جاء فورا. وقال ديرو، البالغ من العمر 44 عاما «لقد كانت الخريطة في حالة مزرية. وقد اقترحت ألا تتم إعادة لفها. وفي كل مرة يتم تداولها، كانت تتكسر أجزاء إضافية، وكان الضرر يتزايد».

وكان ديرو غير مبال بالانتقال إلى مكتبه، لذا فقد صنع خيمة بلاستيكية مؤقتة في مكتب الجمعية وزودها بمواد مرطبة. بعدها لانت الورقة الصلبة، ومنذ عام 1991 حملها ديرو، المتخصص في حفظ الأوراق بطريقة لم يكن يمكن التفكير فيها أثناء صنع الخريطة، في سيارة من طراز «زيب كار». وغسل ديرو الخريطة لمدة أربعة أيام في حمام قلوي أزال الأحماض والوسخ، وقطع الغلاف الكتاني. ورتب القطع، باستخدام زجاجة مكبرة قوية وملاقط، وترك الخريطة تجف، فقط لكي تظهر الفجوات الصغيرة بين الشرائط، وكانت النتيجة هي تقلص الورقة. وبعدها أعاد ديرو تبليل الخريطة وعاود الكرة من جديد، لكنه ترك القطع تتداخل بشكل محدود. وقد حققت هذه الطريقة النتيجة المرجوة؛ حيث تقلصت الخريطة بشكل مثالي في المكان.

وكانت هناك خطوط بيضاء مرئية في المناطق الممزقة بالخريطة، وكانت الأقمشة الداخلية الأكثر إشراقا من الورقة تطل من السطح المبقع. وزار ديرو متجر أرغوسي للكتب على الجانب الشرقي العلوي، واشترى عددا قليلا من الكتب القديمة الداكنة كانت مطبوعة على ورقة قماشية، مثل الخريطة وليس على لب خشبي. وأجرى عليها تقنية كانت سوف تثبط دماء أي كاتب، وتجعله يفكر في أين ستكون كتبه خلال 200 عام؛ حيث حمص الكتب في موقده بالمطبخ، ثم قام بغليها في المياه، وبعد ذلك صب الخنة الكريهة الناتجة على الخطوط البيضاء، لكي تتماشى هذه الخطوط مع بقية الخريطة. وأحاط المنتج المنتهي بإطار وغلفه بزجاج شبكي. وتخطط الجمعية (التي دفعت سعرا منخفضا قيمته 5.000 دولار لتجديد الخريطة) لعرض الخريطة أمام العامة في المستقبل. وقال ديرو «لا داعي للعجلة، فسوف يستمر أثر التجديد لمئات ومئات من السنين».

* خدمة «نيويورك تايمز»