«تصميمات جيري» تنفخ البوق تحية من أجل الرجل العادي

يؤمن بأن الموسيقى مثل المحاولات الإبداعية الأخرى ينبغي أن تكون أكثر من قيمة جمالية

تكمن الفكرة إلى جذب الموسيقيين «للخروج من فقاعتهم« وجعلهم أكثر دراية بالجمهور المحيط بهم («نيويورك تايمز»)
TT

هل باستطاعة مهندس معماري إنقاذ الموسيقى الكلاسيكية؟ يبدو أن هذا كان هدف مايكل تيلسون توماس، المدير الفني لأوركسترا «نيو وورلد سيمفوني« عندما استعان بفرانك جيري لتصميم مركز موسيقي جديد. مثلما الحال مع مدراء المؤسسات الموسيقية الكلاسيكية الآخرين، يناضل توماس سعيا للتقارب مع الجمهور الأصغر سنا. من جهته، يتمتع غيري، 81 عاما، الذي كانت تربطه صلة معرفة بتوماس، 66 عاما، عندما كان الاثنان يعيشان في لوس أنجليس، بسمعة تدور حول كونه مهندس معماري قادر على سبر أغوار الخيال الشعبي. وأثمر تعاون الاثنين عن مبنى تقرر افتتاحه الثلاثاء المقبل يزخر تصميمه بأفكار شعبوية، لدرجة تبدو مفرطة أحيانا.

يتسم المبنى بشكل خارجي صندوقي، وتعد تصميماته الداخلية ـ وهي عبارة عن مجموعة من الاستوديوهات المخصصة لإجراء البروفات ملحقة بقاعة تضم 756 مقعدا ـ جزء من جهود كسر الحاجز المعنوي بين العازفين والجمهور، ومن خلال ذلك يسعى المصمم لضخ روح جديدة في لون من ألوان الفنون غالبا ما يجري النظر إليه باعتباره جامدا وعتيق الطراز. ويبدو أيضا أن المشروع يشكل نقطة تحول بالنسبة لجيري، فقد تعرض خلال السنوات الأخيرة لانتقادات حادة لعمله في مشروعات تنمية عقارية ضخمة مدرة للمال من ذات النمط الذي كثيرا ما أبدى رفضه وازدراءه له في شبابه. علاوة على ذلك، فإن تصميماته أحيانا اكتسبت طابعا يعكس الرفاهية والثراء على نحو مغالى فيه. على النقيض، يشكل الطابع البسيط للمركز الموسيقي الجديد عودة إلى نوعية المشروعات التي جعلت منه رمزا ثوريا على الساحة المعمارية الأميركية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. ويعتبر المركز الموسيقي، المطل على متنزه «ساوند يبيس» الجديد الذي صممته شركة «ويست 8» الهولندية، محور جهود استمرت 15 عاما لتحديث منطقة متردية الأوضاع من ميامي بيتش في منتصف الطريق بين منطقة تسوق للمشاه تعج بالحركة في لينكولن رود من ناحية الجنوب ومركز المؤتمرات الواقع إلى الشمال. ويتألف المتنزه من ممرات متعرجة ومقاعد خراسانية ذات انحناءات، ويتميز بانسجام وتناغم واضح مع التصميم المعماري الفريد لغيري. من بعيد، يبدو المركز الموسيقي شبيها بالمباني المجهولة المزخرفة بالجص المنتشرة بمختلف أرجاء ميامي، لكن على نحو أضخم. ويثير التصميم الداخلي صندوقي الشكل للمبنى في الأذهان المشروعات الأولى لغيري مثل فرع لمكتبة فرانسيس هوارد غولدوين عام 1986 و«استوديو دانزيغير» عام 1964، وكلاهما في لوس أنجليس ـ وهي مباني تميزت بجوانبها الخالية من أي زخارف والمواد البسيطة التي دخلت في بناءها، الأمر الذي ساعد في التأكيد على موهبة غيري وقدرته على سد الفجوة بين التصميم المعماري رفيع المستوى وصخب المناطق الحضرية. إلا أنه بمجرد وصولك للمتنزه وتحويل أنظارك نحو الواجهة الأساسية للمركز، تعاين فجأة تدفقا للحياة به، حيث يرتفع جدار زجاجي يغطي واجهة المبنى، بحيث يكشف بهو المبنى برمته. وبالداخل، جرى تصميم غرف البروفات والإعداد فوق بعضها البعض على نحو جعلها تبدو أشبه بكومة غير مرتبة من الأقفاص. عندما وقعت عيناي للمرة الأولى على هذا المشهد ـ وكان الوقت ليلا وكانت الغرف مضاءة من الخلف ـ أثار المشهد في ذهني صورة كيانات عملاقة تتصارع فيما بينها لإيجاد مساحة لنفسها. وتذكرت أيضا صورة بهو دار أوبرا باريس التي صممها تشارلز غارنيير في القرن الـ19، وهو مساحة مرتفعة يبدو في إطاره الجمهور جزء من العرض الدائر على خشبة المسرح.

إلا أنه في الوقت الذي عكس تصميم غارنيير الطابع الاستعراضي للطبقة البرجوازية الفرنسية الصاعدة، بالتركيز على الجماهير الأنيقة التي تجوب المبنى، تتميز رؤية غيري بطابع أكثر ديمقراطية وبساطة، ذلك أن الأفراد الذين سيعجزون عن شراء تذاكر سيكون بمقدورهم وضع مقاعد في المتنزه ومشاهدة مقاطع حية من العروض الجارية في الداخل والتي ستبدو منعكسة على جدا المبنى من الخارج. خلال النهار، عندما لا تكون هناك عروض، بإمكان الزائرين أن يطوفوا بمختلف أرجاء البهو ومعاينة قاعات التدريبات والبروفات على نحو مباشر. في المقابل، من المحتمل أن يلج رواد الأوبرا إلى داخل المبنى من باب خلفي من باحة خراسانية تقع خلف المبنى تضم شاشة معدنية خفيفة مزدانة بصور ملونة بتقنية «إل إي دي». ومن هناك سينتقلون عبر جسر إلى الطابق الثاني، حيث يتمتعون بمشاهدة منظر خلاب للمدينة، أو إذا وصلوا متأخرين بمقدورهم النظر نحو الأسفل لمشاهدة العازفين أثناء استعداداهم لدخول القاعة الرئيسة. وينقلهم سلم دوار يمر عبر غرف البروفات إلى القاعة الرئيسة بالأسفل. وتكمن الفكرة، حسبما يرى توماس، في عدم السماح للجمهور بمراقبة الموسيقيين وهم يمارسون مهامهم اليومية فحسب، ولكنها تهدف أيضا إلى جذب الموسيقيين «للخروج من فقاعتهم« وجعلهم أكثر دراية بالجمهور المحيط بهم. ويأمل توماس، من خلال هذا الأمر، في خلق تجربة موسيقية أكثر قربا. وتطرح هذه الرؤية بقوة خاصة في قاعة الحفلات الموسيقية، التي تعتبر واحدة من أفضل المساحات التي صممها «غيري« خلال سنوات. وكما فعل تماما بقاعة «والت ديزني« للحفلات الموسيقية في مدينة لوس أنجليس، وضع «غيري« المقاعد هنا بنمط «مزارع العنب« مع تنحية غالبية المقاعد في اتجاه خشبة مسرح شبه دائرية من ثلاثة جوانب. وتغطي ألواح كبيرة محدبة متلاصقة مصقولة بجص أبيض مصمت الجدران والسقف، وتعطي القاعة إحساسا دافئا ومميزا بشكل ملحوظ. ولكن قاعة «ميامي بيتش»، التي يصل حجمها إلى ثلث حجم قاعة «والت ديزني» تعتبر أكثر حميمية، وسوف تكون تجربة الجماهير هناك غامرة بشكل أكبر. وقد تم وضع شرفات صغيرة في نقاط متعددة حول القاعدة لكي يتمكن موسيقيون منفردون من الجلوس بين الجماهير خلال العرض الموسيقي. ويخطط توماس لعرض صور فيديو على أسطح الألواح المحدبة التي تحيط بخشبة المسرح. هناك العديد من المخاطر الواضحة المتعلقة بذلك منها على سبيل المثال فربما يجد الموسيقيون وجود العديد من الغرباء خلال جلسات التدريب مربكا لهم، وحتى وإن كانوا على الطرف الآخر من الحائط الزجاجي. وكذلك ربما تصيب صور الفيديو التي تتضمن التعاون بين الفنانين والعازفين الأشخاص الذين يرغبون في الاستمتاع بالموسيقي بالضيق. (عندما شاهدت إحداها تختبر وجدت تأثير الموسيقى حالما، غير أنه لم يكن هناك عازفين في الغرفة). بيد أنه بغض النظر عن هذه القضايا هناك شيء استثنائي بشأن هذا المبنى، والتي أشك في أنه مرتبط بتاريخ غيري الشخصي. فعندما كان يصمم قاعة ديزني هول أخبرني أنه عندما وصل إلى لوس أنجليس للمرة الأولى كمراهق كانت عائلته تعيش في شقة ضيقة من غرفة واحدة في ناينث ستريت في المنطقة القريبة من وسط المدينة، وكان هو وأخته ينامان بالتناوب على سرير في غرفة المعيشة. أما أبوهم والذي أصيب بأزمة قلبية فكان يعمل بدوام ليلي في متجر للشراب. وللحفاظ على أبنائها من الوقوع فريسة اليأس كانت أمهم تعزف لهم الموسيقى الكلاسيكية كل ليلة بعد العشاء، والتي وصفها جيري بالطريقة التي جمعتهم سويا كعائلة. تعكس القصة إيمان جيري بأن الموسيقي، مثل المحاولات الإبداعية الأخرى، ينبغي أن تكون أكثر من قيمة جمالية. وكتجربة مشتركة يمكن أن تلمس جوهرنا العاطفي، ستساعد هذه التجربة في تضافرنا في مجتمع متحضر. ربما يكون ذلك هو السبب في أنه المبنى الأول لغيري الذي أغرم به خلال سنوات ـ ليس لأنه يتسم بالكمال بل للقيم التي يحتويها.

* خدمة نيويورك تايمز