الفرنسية سافو تغني «الأطلال» في باريس

صرخت «أعطني حريتي» فاشتعل المسرح بشرارة من ميدان التحرير

TT

ليست هي المرة الأولى التي تقف فيها سافو على مسارح باريس لتنشد مختارات من أغنيات كوكب الشرق أم كلثوم، لكن هذه المرة كانت مختلفة ومشحونة بالمشاعر، سواء في أداء المغنية الفرنسية المولودة في مراكش، أو في صدور المستمعين الذين كانوا خليطا من كل الجنسيات، يجمعهم القلق على مصر وهي تنتفض، وأملهم معقود على القاهرة في مخاضها المذهل.

غنت سافو، الفنانة الفرنسية المولودة في مراكش قبل 60 عاما، رائعة إبراهيم ناجي «الأطلال» على مسرح «نيو مورننغ» في باريس. ولهذا المسرح حكاية، فهو صالة تعبق بالتاريخ، تقع في قلب العاصمة، وتخصصت في التعريف بالفرق العالمية التي تعزف موسيقى الجاز، مع استثناءات قليلة. لكن أداء سافو المفعم بالمكابدة، وصوتها الأجش الملغوم بالشجن، لم يكونا بعيدين عن تلك الموسيقى التي رددتها حناجر المغنين الأفارقة وهم يشتاقون إلى قارة انتزعوا منها بالقسر. لكن حكاية الـ«نيو مورننغ» لا تتوقف هنا، بل تعود إلى ثلاثين عاما، عندما تسلمت الصحافية المصرية السابقة، إجلال فرحي، هذا المسرح لكي تجعل منه عنوانا للجاز في باريس، تعاقبت على الغناء فيه أشهر الأصوات ومن الكثير من الجنسيات. ولهذه السيدة التي تبلغ (اليوم) 88 عاما، وقفة مقبلة للحديث عنها.

بقفطان أبيض مطرز بتعريشات سوداء، وبشعر قاتم طويل وأجعد يغطي جانبا من وجهها، ارتاحت سافو فوق وسائد ملونة، وصبت لنفسها قدحا من الشاي الأخضر، قبل أن تتناول مكبر الصوت وتبدأ بقراءة مطلع القصيدة، مترجما إلى الفرنسية، ثم تروح تنشد الأغنية مقطعا مقطعا، متفاعلة مع كلماتها وكأنها تستلها من روحها. أما الجمهور، فقد كان تجاوبه مع سافو يتراوح بين التصفيق والآهات، بالنسبة للعرب، والإصغاء التام والحرص على عدم المقاطعة بالتصفيق أو عبارات الإعجاب، على عادة الفرنسيين في الحفلات الموسيقية.

لكن المغنية عرفت، وهي مسكونة بالتقاليد الشرقية، كيف تزحزح هؤلاء وتسحبهم إلى التفاعل معها، مثلما كانت السيدة أم كلثوم تسحر مستمعيها وتخرجهم عن أطوارهم، خصوصا في المقاطع الراقصة من الأغنية. وقبل أن تصل سافو إلى بيت القصيد «أعطني حريتي أطلق يديا»، قرأت المقطع بالفرنسية، لكي يكون نصف الجمهور مدركا لهياج النصف الآخر مع الاستماع إلى هذه الكلمات. ولم يحدث أن انسجمت هذه الكلمات مع واقع يجري على الأرض، مثلما حدث ليلة أول من أمس على هذا المسرح الباريسي العتيق، كأن سافو كانت تصرخ بحناجر كل الشباب الساهرين، ليلتها، في ميدان التحرير بالقاهرة.

انتهت «الأطلال»، لكن الحضور لم يكونوا مستعدين لمغادرة الصالة. إنهم يقومون باعتصامهم الخاص تضامنا مع ما يجري هناك، لذلك عادت سافو لتغني من التراث الأندلسي وتشبع جمهورها الراغب في السهر. فهذه الفنانة ليست مغنية فحسب، بل كاتبة وروائية وشاعرة ومراسلة صحافية، تغني بالعربية والعبرية والفرنسية والإسبانية والإنجليزية، ويمكن اعتبارها امتدادا لمغنيات من مثيلات جولييت غريكو وبربارة وغيرهن ممن كانت صداقاتهن مع الكتّاب والمسرحيين توسع من آفاقهن، وتضعهن في قلب الحركة الثقافية العامة؛ فقد وصلت سافو، واسمها الحقيقي دانييل إيبغي، من المغرب وهي في أول الصبا لتدخل الكونسرفتوار، وتبتدع لنفسها شخصية برغاموت، باعتبارها مغنية من مقاطعة كيبيك الناطقة بالفرنسية في كندا. لكنها بعد بضع أغانٍ تخلت عن تلك الشخصية، واختارت لنفسها اسم الشاعرة الإغريقية سافو، وهو ما اشتهرت به ورافقها حتى اليوم.

أصدرت سافو أول أسطوانة لها عام 1977 بعنوان «كناس الريكس»، ثم شدت الرحال إلى نيويورك لتعمل مراسلة لصحيفة «آكتويل» الباريسية، وهناك جذبتها حركات «البانك» فسجلت أربع أسطوانات تتضمن أغنيات كتبتها بنفسها، من النوع الذي يوصف بـالسياسي أو الملتزم، أبرزها «ثاتشر المجرمة». وبعد عودتها إلى باريس نشرت سيرتها في كتاب سمته «العنف اللطيف» وتصدر أسطوانة جديدة بعنوان «رغبات» حققت نجاحا كبيرا، تبعها نشاط فني محموم انتهى برحلات في أميركا اللاتينية أثمرت أغنيات من وحي تلك البلاد. وفي مرحلة لاحقة، توطدت علاقة سافو بالقضايا العربية، وغنت مع فرق «الغناوة» الإيقاعية، واستعادت أغاني «الشيخات» في المغرب. أما النقطة الحاسمة في تاريخها فكانت تبنيها لتراث أم كلثوم، وبالأخص «الأطلال» التي أنشدتها في أكثر من مسرح ومدينة.

تعتبر سافو فنانة «ثورية»، تبنت عدة قضايا، وانطلقت من ثنائية كونها يهودية وعربية المولد لكي تدعو للسلام وتسعى للغناء مع فرق موسيقية تجمع عازفين فلسطينيين وإسرائيليين. وفي هذا السياق، أنشدت قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش.