النصب التاريخية والحديثة في سراييفو رموز متعددة الثقافات.. تثير سخط المثقفين

د. دوراكوفيتش لـ «الشرق الأوسط»: أرادوا القول لنا كمتعددي الثقافات بأننا عراة

TT

تزخر سراييفو بالكثير من النصب التاريخية التي تحمل دلالات ثقافية، وحضارية، وتاريخية، وسياسية عميقة، كما تعكس وجهة نظر مؤسسيها، والجهات التي وقفت وراء نصبها في الأماكن والميادين والساحات العامة. ومن بين النصب الموجودة في سراييفو، نصب «السبيل» في سراييفو القديمة، باش تشارشيا، الذي يعود بناؤه إلى القرن السادس عشر، وساعة مسجد الغازي خسرف بك، التي تعمل وفق التقويم القمري، والشعلة، التي تعود إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، ومجسم ضحايا سراييفو من الأطفال، ومجسم الرجل (متعدد الثقافات) في ساحة علي عزت بيغوفيتش، في سراييفو، وغيرها.

ويمثل نصب «السبيل» في قلب سراييفو القديمة، الذي بناه محمد باشا كوكافيتسا سنة 1754 أحد المعالم البارزة في المدينة، إلى جانب نحو 200 مسجد تاريخي في المدينة التي تضم وفي مساحة لا تزيد على 500 متر مربع، أماكن عبادة لأربع ديانات، هي اليهودية، والأرثوذكسية، والكاثوليكية، والإسلام.

فوجود سراييفو، في شبه منخفض، تحيط به الجبال، جعلها ملتقى للكثير من عيون المياه الجوفية التي تتبعها العثمانيون، وكشفوا عن157 منها، صنعوا منها «معجزة مائية» في سراييفو، حيث تم تنظيمها في قنوات، بشكل طبيعي، سنة 1609، وبلغت سنة 1660 من القرن الماضي، 110 أماكن للتزود بالماء من خلال الحنفيات التي خصصت لذلك.

وقال الباحث الدكتور يوسف راميتش لـ«الشرق الأوسط»: «ظلت تزود سراييفو بالمياه العذبة لعدة قرون، وقد تعرضت للإفساد والتدمير في الحقب التي أعقبت الوجود العثماني 1463 - 1878 في منطقة غرب البلقان، بيد أن الكثير منها لا يزال صالحا، ويستمر السكان في الاستفادة منه». ومن أشهر عيون السبيل في سراييفو، سبيل الغازي خسرف بك، الذي تزامن مع بناء المسجد والمدرسة التي تعرف باسمه حتى اليوم، وقد تم بناؤهما عام 1537. وسبيل جامع علي باشا في عام 1561، وسبيل جامع باش تشارشيا الذي تم تشييده عام 1528، وسبيل جامع سراييفو، والذي سبق بناؤه جامع الغازي خسرف بك، وسبيل «كواتشي» التي تعود هي الأخرى إلى القرن السادس عشر، وهي اليوم عين جارية تحيط بضريح الزعيم الراحل علي عزت بيغوفيتش (1925 - 2003).

ومن النصب والمعالم التاريخية في سراييفو، برج ساعة جامع الغازي خسرف بك، وهو يقع في مبنى «الإمارة» التابع لأوقاف جامع الغازي خسرف بك، في سراييفو، وقال القارئ والإمام الأول في جامع الغازي الحافظ منصور مالكيتش، جامع الغازي خسرف بك، أكبر المساجد في البوسنة، وقد بني الجامع في عام 1537 ويقع بين 4 شوارع. بينما بني مبنى الإمارة في عام 1529 وكان مخصصا للأعمال الخيرية، وبه مطعم خيري للطلبة وضعاف الحال والفقراء والمسافرين المعدمين، ويحتوي على بيت ضيافة يستطيع المسافر الإقامة فيه لمدة 3 أيام من دون مقابل.

وحول الساعة القمرية أفاد بأنه في القرن السابع عشر تم تشييد برج الساعة، والذي أعيد ترميمه سنة 1762 مع المرافق الأخرى، بعد الحريق الذي أشعله النمساويون في سراييفو، بقيادة يوغين سفويسكي. وتابع: «تعمل الساعة وفق التقويم القمري، وهو ما يعني أن يوما جديدا يهل على العالم، مع كل غروب شمس». ويلاحظ أن معالم سطح الساعة، أو واجهة الساعة، متجهة إلى النواحي الأربع، شمالا وجنوبا، وشرقا وغربا. وفي عام 1875 تم جلب آليات جديدة للساعة من لندن، وأثناء التركيب تم إضافة الجزء العلوي من الساعة، والتي تغير آليات عملها باستمرار خلال السنة لتواكب مواقيت التقويم القمري. ويقوم موظف يطلق عليه، المؤقاتي، بتنظيم آليات عمل الساعة، التي تشير عند كل غروب إلى الساعة الثانية عشرة.

أما النصب التي تم تشييدها بعد الحرب، 1992 - 1995 فتمثل مجسمات لجنود قتلوا أثناء الحرب، ومنهم جنود دوليون كانوا تابعين للأمم المتحدة. ونصب ضحايا الحرب من الأطفال، الذي أزيل الستار عنه في 6 أبريل (نيسان) 2009، وقال رئيس منظمة البحث عن المفقودين في البوسنة عمر ماشوفيتش: «منذ ذلك الحين أصبح ملتقى لأهالي الضحايا، من الأطفال في سراييفو التي سجلت مقتل 4600 طفل من سكان العاصمة البوسنية أثناء الحرب». ومن بين المناسبات التي يجتمع فيها الأهالي، ذكرى الاستقلال، ويوم الأم، واليوم العالمي للانتصار على الفاشية. وتستعد الجموع ولا سيما أهالي الضحايا من الأطفال للتجمع مجددا حول النصب التذكاري الذي أزيح الستار عنه يوم 6 أبريل 2009 وهو تاريخ اندلاع حرب الإبادة التي شهدتها البوسنة، بالإضافة لنحو ألف طفل قدموا من مختلف مناطق البوسنة، ليرددوا جميعا أنشودة «حتى لا تعود الحرب».

وكانت منظمات غير إنسانية قد استغلت حالة الحرب سنة 1992 ونقلت 1200 طفل من سراييفو إلى ما قيل إنها محاضن آمنة في الخارج، ثم اختفت آثار أكثر من 95 في المائة منهم في أوروبا الغربية، وهناك دلائل تفيد بأنهم بيعوا لعوائل لا تملك أطفالا وكنائس ربما استخدم الكثير منهم كقطع غيار بشرية. ومن بين نحو 5 آلاف قتلوا في سراييفو وحدها سواء قنصا أو بفعل شظايا الصواريخ والقنابل، هناك 500 لم يعد دفنهم بعد منذ العثور عليهم داخل مقابر جماعية. وقد جرى إحياء ذكرى ضحايا الحرب من الأطفال العام الماضي، من دون أي مظاهر دينية أو سياسية، رغم حضور بعض كبار السياسيين هذه التظاهرة. ولم تلق فيها أي كلمة، واكتفي بوضع الزهور على النصب التذكاري والذي هو عبارة عن مجسمين من دون ملامح يمثل الأطفال الضحايا وأمهاتهم، وقد ظهر مجسم الأطفال ككتلة أسطوانية صغيرة بجانبه كتلة مماثلة ولكنها أطول منه، وهو تجسيم لعلاقة الطفولة بالأمومة. وقد حاول نحات النصب أن يوحي بالعلاقة القائمة بين الأحياء والأموات من خلال رسم آثار على النصب، وهي آثار متابعة الأحياء لملحمة من قدموا أرواحهم من أجل الحرية. ويقول أهالي الضحايا إنهم انتظروا 14 عاما لرؤية هذا المجسم المقابل لمركز «بي بي آي» التابع لبنك البوسنة الدولي.

بيد أن هناك نصبا وتماثيل لا تلقى الترحيب، بل النقد والازدراء. ومما يثير الكثير من المثقفين في سراييفو، ويستفزهم بشكل متواصل، التمثال الذي أهدته إيطاليا إلى سراييفو، سنة 2002 والذي صنعه النحات الإيطالي، فرانشيسكو بيريلي، وهو عبارة عن تمثال لشخص عار، أطلق عليه اسم «الرجل متعدد الثقافات». وقال الدكتور أسعد دوراكوفيتش، المستعرب المعروف: «الكثير من البوسنيين والعرب وغيرهم من المسلمين يعتبرون أنفسهم متعددي الثقافات، وهذا التمثال ومن صنعه ومن أعطاه هذه الصفة ومن أرسله إلى البوسنة وتحديدا سراييفو يقول لنا جميعا إننا عراة. وتابع: «التعدد الثقافي يجب أن ينظر إليه على أنه خصب وغناء وتعدد وتسامح واستيعاب وليس عراء وتجردا وفضيحة، وهو ما توحي به التسمية غير البريئة». وتابع: «أنا أستغرب كيفية القبول بهذا التمثال في سراييفو». ويوجد نظير لتمثال «الرجل متعدد الثقافات» في تورونتو بإيطاليا، بيد أن سكان سراييفو لا يرغبون في بقائه في عاصمة بلادهم. وقال الطالب سامر دوريتش: «التمثال تعرض عدة مرات للرسم الجداري، من باب السخرية من المفاهيم التي أريد له أن يعبر عنها، وقد تم نقله إلى مكان منعزل نسبيا بساحة علي عزت بيغوفيتش، ولكن معارضة بقاء التمثال لا تزال قائمة» ويعبر الكثير من المتقاعدين من كبار السن، ممن يتخذون من ساحة علي عزت بيغوفيتش، مكانا للقاء، ولعب الشطرنج، عن سخطهم من وجود التمثال ويعتبرونه «هدية غير مرغوب فيها».

وكانت بلدية سراييفو الجديدة قد وعدت بنقل التمثال إلى مكان آخر وإقامة نافورة ماء مكانه. وقد حاول الكثير من الشباب إلباس التمثال ملابس داخلية في 23 ديسمبر (كانون الأول) 2009، إلا أن محاولتهم باءت بالفشل.