دمشق تشيع عمر أميرالاي وسط غياب رسمي.. وحضور ثقافي وفني كبير

فرح بثورة الشباب لكن تراكم القهر غلبه

المخرج السوري عمر أميرالاي («الشرق الأوسط»)
TT

خيم حزن كبير على الأوساط الثقافية السورية التي فوجئت بوفاة واحد من أكثر سينمائييها تميزا، ومنذ أعلن نبأ وفاته بعد ظهر أول من أمس (السبت) بدأت جموع المثقفين والفنانين والأدباء في التوافد إلى بيته الكائن في منطقة الصالحية عرنوس وسط العاصمة دمشق، وفي ظل غياب رسمي واضح لممثلين عن وزارة الثقافة والمؤسسة العامة للسينما التي ناب عنهما أكاليل زهور زينت سيارة التشييع، خرج في موكب مهيب الأهل والأصدقاء والزملاء وجموع من الشباب لوداعه، حيث صلي على جثمانه أمس (الأحد) وووري الثرى في منطقة الشيخ محيي الدين قريبا من ضريح ابن عربي.

هناك وقف الجميع غير مصدقين أن عمر الذي كان قبل أسبوع يجمع مع زملائه تواقيع المثقفين لتأييد ثورة الشباب بتونس ومصر، قد خطفته جلطة دماغية على حين غرة، لم تمهله ليتم مشروعه الفني، الذي حقق فيه «خطوات مهمة من خلال تسليطه الضوء بشكل عميق ودقيق وصادق على مشكلات السوريين، تسليط الضوء في حد ذاته جزء من حل المشكلة» بحسب الدكتورة مية الرحبي التي بدت متأثرة جدا لرحيله، وقالت لـ«الشرق الأوسط»: «للأسف أن مشروعه الفني لاقى صعوبات وعراقيل كثيرة وجاء القدر أخيرا ليخطفه، ومن المؤسف أن أفلامه جرى التعتيم عليها ولم يتح لها العرض جماهيريا كي تلاقي الصدى الذي تستحقه». ومع أن الدكتورة مية الرحبي لا تعد من بين أصدقاء عمر أميرالاي المقربين، لكن تقول: «جمعنا معه مشروع واحد وهو (النهوض بالبلد)، وتعرفه منذ عاد من فرنسا ليكون ضمن مجموعة من الشباب السوري المتحمس لتقديم شيء مختلف في السينما للمجتمع»، وتضيف: «كل أفلامه كانت تسجيلية هادفة تسلط الضوء على مشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية وبمستوى فني عال». وتقول الرحبي إن «عمر لاقى تقديرا عالميا لم يلاق مثله في بلده»، وتتابع: «كان مهموما بالنهضة والحرية والعدالة الاجتماعية والناس المهمشين الذين لا صوت لهم» منذ شارك في ثورة الطلاب بفرنسا عام 1968 وقطع دراسته ليعود إلى سورية وهو يحمل همّ الذين لا صوت لهم.

الأصدقاء الذين رأوا عمر في الفترة الأخيرة قالوا إنه كان فرحا جدا بثورة الشباب في تونس ومصر، وكان متابعا دؤوبا لأخبارهم، لذا كان موته مفاجئا، إذ لم يك يشكو من أي مرض، كما عرف عنه بعض العادات الصحية كالامتناع عن التدخين والشراب وأكل اللحوم، ونأيه عن الأضواء والصخب رغم قلقه الداخلي الكبير.

الشاعرة والسينمائية هالة محمد تتكلم عنه بصفته صديقا عزيزا وتقول: «عمر مخرج سينمائي عالمي وإنسان شديد المحلية كان يعلن دائما أنه يحارب البشاعة لذلك كان ينتقد طيلة الوقت تراكم مظاهر البشاعة في حياتنا كما ونوعا»، أما شخصيته «فتتسم بأنه هارموني غريب هو ساخر ومبتسم ومتأمل وهادئ ومسالم ومحب جدا للحياة ولبلده ولأصدقائه، وفي الوقت ذاته هو شخص مبدئي من الطراز الشرس». وتوضح هالة ما تقصده بكلمة شراسة بأنها المعنى الإيجابي «فهو لا يتنازل ولا يساوم على مبادئه حتى في طريقة لبسه ومظهره، كان بإمكانه حين يمشي في الشارع أن يكون شجرة جميلة أو أن يكون تمثيلا لفكرة الجمال التي تسكن في عقله الإنساني النبيل». وتؤكد هالة بحكم معرفتها الوثيقة بعمر أميرالاي الذي يرتبط بصداقة عميقة مع زوجها المخرج هيثم حقي وأخيها المخرج أسامة محمد، أن أصدقاء عمر يجمعون على أنه كان «مثالا للنزاهة ومثالا للمبدئية»، فهو «راديكالي في رؤيته للتغيير، التغيير في اتجاه حياة كريمة تليق بالإنسان»، فهو نموذج للإنسان «الراديكالي والمسالم، الذي كان يبتسم ابتسامته الساخرة تلك وهو يتصدى بحوارات ومواضيع سينمائية تسجيلية قضى حياته وهو يعمل بإخلاص لتحقيقها»، وتضيف هالة: «عمر إنسان ديمقراطي بامتياز تربى على الديمقراطية، كان يحترم الرأي الآخر ويتعلم منه ومعظم أصدقائه من الشباب، ليس ليكون معلما لكن ليبقى ديناميكيا في آن، ليكون مخلصا لفكرة التغيير التي كان يؤمن أن الشباب هم من سيحمل مشعلها»، لافتة إلى أنه إذا بحث عن «معلم في الفيلم التسجيلي العربي والسوري، فإن عمر أميرالاي هو الاسم الأول والعنوان، وعمر أميرالاي المثقف هو من الأسماء الأولى للعناوين الأولى».

صديقه المخرج السينمائي أسامة محمد كان متأثرا لرحيل صديق كان يحتل جزءا كبيرا من حياته، وفي لحظات الوداع كانت ذكرى اللقاء الأول حاضرة، وأسامة لا ينسى ذلك اليوم في مطلع السبعينات في ندوة حوارية مع الناقد الفرنسي سيرج دانييه دعا إليها النادي السينمائي العربي في دمشق، كان حينها أسامة يدرس السينما، وبعد الندوة دعاه عمر إلى بيته، ودار بينهما حوار طويل وعميق وكأنهما أصدقاء من زمن طويل، يقول أسامة: «كان اهتمامه بي وبمشروع تخرجي انعكاسا لكرمه الكبير ورغبته الأصيلة في تشجيع شاب في بحثه الفني، فكرة مشروعي عن تراجيديا الحياة، في تحول البشر الأشد فقرا وهامشية نتيجة الحصار الاقتصادي والروحي إلى أدوات قمع»، حينها قال عمر ملاحظة لا تزال محفورة في ذاكرة أسامة، وهي «عندما يتمكن المرء من الوصول إلى الحقيقة بعمق في لحظة واحدة ومكان واحد فهذا أهم من محاولة إثباتها عبر تكرار الأمكنة واللقطات»، يقول أسامة أذكر هذه الكلمة أثناء عملي كثيرا فهي «بالنسبة إلي ملاحظة تتمثل في الفن بكل تعثراته ونجاحاته». ويصف أسامة عمر بأنه «محاور مدهش ودائما مفاجئ، إذ يحتفظ دائما بمسافة بينه وبين الآخرين، فلا يحب الانخراط المجاني ولا الإعلان عن نفسه، ومن يعرفه عن قرب يكتشف كم هو إنسان هش وعاطفي»، موضحا أنه عندما كان يتعرض عمر للنقد «يتحول إلى مستمع إيجابي نادرا ما نلمس لديه رغبة في الدفاع عن النفس»، هذا فضلا عن أنه «كان يفرح لنجاح الآخرين» وهذا من «سمات الفنان الكبير».

الروائي خالد خليفة فضل التحدث عن أعمال عمر أميرالاي، مشيدا بإخلاصه الشديد لفن السينما التسجيلية، إذ «لم يقم بإخراج الأفلام الروائية ولا الدراما التلفزيونية رغم إغراءات كثيرة»، فهو من رواد السينما التسجيلية العربية وظل مخلصا لها، «سواء كمخرج أو معلم حرص على التواصل مع الأجيال الشابة التي جاءت من بعده، أو من حيث كونه مرجعا أساسيا لهذا النوع من السينما، حتى إن أغلب الشباب السوريين الذين يعملون في هذا المجال هم من تلاميذه بطريقة أو بأخرى»، ولفت خالد خليفة إلى ما يمثله عمر أميرالاي كـ«نموذج للعلاقة الشائكة بين المثقف والسلطة التي دفع ثمنها، سواء بمنع أفلامه أو التضييق عليه أثناء التصوير»، إلا أن أهم ما قام به أميرالاي، بحسب خليفة، هو تمكنه من «إيصال السينما التسجيلية السورية إلى العالمية»، وقال: «ستحتاج حياتنا الثقافية إلى وقت طويل كي تعوض مخرجا مثله تمكن من تقديم أفكار قوية تمس الحياة السورية بهذا المستوى الإبداعي».

الكاتبة والسيناريست كوليت بهنا قالت إن خسارة عمر موجعة، خاصة في «ظل تحولات عميقة يشهدها العالم، وكان عمر في طليعة من يسجلها بصدق»، وتضيف بهنا: «لقد أنجز عمر عددا من الأفلام المهمة والخاصة وعانى جراء ذلك الأمرين لكن المعاناة الأكبر كانت في منعها من العرض لأكبر عدد من المشاهدين، وظلت بعض الأفلام حبيسة الظروف والمتغيرات والعروض الخاصة.. في النهاية الفيلم يصنع للجمهور وليس للنخبة». وتلفت كوليت بهنا إلى أن عمر عرض فيلمه «الرجل ذو النعل الذهبي» بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وتقول: «ربما لولا هذا الحدث المؤسف ما كان يتسنى لعمر أن يعرضه عبر قناة تلفزيونية ليتعرف المشاهدون العرب على رؤيته الفنية، وبالتأكيد كان عمر، وكنا أيضا، يتمنى لو كانت أفلامه تعرض في صالات السينما، وهي المصنوعة للسينما».