الأمن الغذائي العربي والحاجة إلى سفينة «نوح» نباتية

لمواجهة آثار تقلبات الطقس والمناخ والكوارث على الغذاء

تم إنشاء بنك «سفالبارد العالمي للبذور» عام 2008 في منطقة جبال جليدية على بعد ألف كيلومتر شمال النرويج الذي اختارته مجلة «التايم» الأميركية كأحسن اختراع لعام 2008 (رويترز)
TT

تعاني دول العالم كافة ارتفاعا وتقلبات في أسعار وإمدادات الغذاء العالمية وما قد يسببه ذلك من مخاطر وأزمات وتأثيرات سلبية واسعة النطاق، خاصة على الفقراء والدول المستوردة للسلع والمنتجات الزراعية الأساسية. ومع تحذيرات هيئات ومنظمات الغذاء العالمية من تفاقم في أزمات الغذاء خلال السنوات القليلة المقبلة، وكذلك مع الزيادة السكانية المتسارعة، تستعد الكثير من الدول حاليا لتحقيق أمنها الغذائي، وتقوم بالاستعداد مبكرا لمواجهة حالات الطوارئ والكوارث والأزمات الغذائية المتوقعة، وذلك من خلال زيادة احتياطياتها الغذائية لكفاية احتياجاتها المستقبلية، باتباع آليات تخزين استراتيجية للسلع الغذائية الأساسية باستخدام تقنيات حديثة في التخزين لرفع طاقة صوامع الغلال وإنشاء أنظمة متقدمة للإنذار والتنبؤ المبكر تفيد في التعرف على أوضاع الزراعة وإنتاج وأسعار الغذاء العالمية، وكذلك معرفة مواضع الأخطار والأزمات والكوارث قبل وقوعها.

في تقرير بعنوان «حالة انعدام الأمن الغذائي في العالم» من إعداد منظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأغذية العالمي، الذي صدر العام الماضي، أشار إلى أن عدد الذين يعانون نقصا في التغذية في العام الماضي بلغ 925 مليون نسمة، مقابل 1.023 مليار نسمة في عام 2009، وبلغ الجوع معدلات مرتفعة للغاية، ويوجد باستمرار في البلدان التي تعاني أزمات ممتدة وتتسم هذه البلدان بتكرار حدوث الكوارث الطبيعية أو الأزمات فيها وبعدم قدرة مؤسساتها على التصدي لهذه الأزمات. ويبلغ عدد الذين يعانون نقصا في التغذية في 22 بلدا من البلدان التي يعتبر أنها تعاني أزمة ممتدة أكثر من 166 مليون نسمة، أي ما يقارب 20% من مجموع عدد الذين يعانون نقصا في التغذية في العالم.

ويعتبر ضياع وفقدان التنوع البيولوجي حاليا أحد أكبر التحديات التي تواجه البيئة والتنمية المستدامة؛ لهذا فإن صون أو حفظ التنوع الجيني للمحاصيل الغذائية والزراعية حول العالم، يعتبر مساهمة ضرورية لتحقيق الأمن الغذائي ومكافحة الجوع والفقر في البلدان النامية. ولأهمية ذلك فقد أعلنت الأمم المتحدة عام 2010 عاما دوليا للتنوع البيولوجي.

وتعتبر الكوارث الطبيعية من تقلبات في الطقس والظروف المناخية وآثارها السلبية على الغذاء أحد أهم أسباب مشكلات الغذاء العالمية، لكن في حالة وقوع كوارث مناخية حادة أو حروب مدمرة أو كارثة نووية وما يتبعها من إشعاعات نووية، سيكون الأمر مختلفا، فسوف يتم القضاء على جينات بذور الغذاء الأساسية، الأمر الذي يؤدي إلى ضياع واختفاء التنوع الوراثي للبذور، وبالتالي تهديد الأمن الغذائي العالمي. وقد دفع هذا الأمر الكثير من الدول لاعتماد مشاريع بنوك الجينات أو البذور، كخطوة أساسية مهمة لتجميع الجينات والبذور النباتية وتخزينها في مكان آمن، بعيدا عن أي كوارث طبيعية مدمرة أو إشعاعات نووية مستقبلية للحفاظ على حياة الجنس البشري.

في تقرير من 350 صفحة، بعنوان «حالة الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة في العالم» أصدرته في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، جاء فيه أن التنوع الوراثي للنباتات الزراعية والغذائية والبرية يواجه خطر الفقد والضياع بلا رجعة، الأمر الذي يهدد الأمن الغذائي لأجيال المستقبل، ما لم تُبذل جهود خاصة لا لصونها فحسب بل لتعميم استخدامها، خصوصا لدى الدول النامية.

ويتناول التقرير جميع جوانب التنوع البيولوجي النباتي من مجموعات بنوك الجينات (المواد الوراثية) إلى آثار التغير المناخي على التنوع المحصولي بهدف حماية التنوع الحيوي الوراثي للمحاصيل الزراعية والغذائية. ويشكل «التغير المناخي» وتفاقم انعدام الأمن الغذائي أكبر التحديات أمام الأنظمة الزراعية في العالم، وهي تحديات لا يمكن مواجهتها ومعالجتها من دون جمع وصون للموارد الوراثية النباتية واستخدامها باستمرار.

ويشير تقرير منظمة «الفاو» بوضوح إلى أن هناك انقراضا مستمرا في التنوع المحصولي البيولوجي ومعه التنوع الوراثي النباتي لمحاصيل الغذاء التقليدية الأساسية التي استمرت زراعتها في غضون القرن الماضي، وتقدر المنظمة أن 75% من التنوع المحصولي قد فقد خلال الفترة من 1900 إلى 2000، وأورد التقرير دراسة حول حالة الموارد الوراثية النباتية للغذاء والزراعة في العالم، تبين فيها أن 16 و22% من محاصيل غذائية مهمة، وهي الفستق والبطاطس والفاصوليا، في طريقها لتختفي زراعتها بحلول عام 2055 بسبب تغير المناخ.

ويذكر التقرير أن السنوات الـ12 الماضية قد شهدت وعيا واهتماما متزايدين بمدى أهمية حفظ واستخدام موارد التنوع الوراثي لمحاصيل الغذاء. والدليل على ذلك تزايد أعداد وأحجام «بنوك الجينات» التي تشكل مستودعات أساسية للحفظ والاستخدام، فهناك حاليا نحو 1750 بنكا من بنوك الجينات حول العالم، منها نحو 130 يحتفظ بحصة تتجاوز 10000 عينة مسجلة.

ومن بين المستودعات الكبرى لصون وحفظ موارد التنوع الوراثي للمحاصيل في العالم ولضمان استمرارية الفصائل الرئيسية من الأنواع الزراعية إذا ما اندثرت من محيطها الطبيعي، فقد تم إنشاء قبو أو بنك «سفالبارد العالمي للبذور» عام 2008 في منطقة جبال جليدية على بعد ألف كيلومتر شمال النرويج، الذي اختارته مجلة «التايم» الأميركية كأحسن اختراع لعام 2008، وقد أقيم المخزن الذي يشبه «سفينة نوح» نباتية في مكان آمن في جزيرة سفالبارد التي تبعد 500 كيلومتر من القطب الشمالي بأقصى شمال غربي بحر النرويج والمحيط الأطلسي. وقد تم بناء القبو على عمق 120 مترا في أحد جبال جزيرة سفالبارد شديدة البرودة لحفظ جميع أنواع البذور النباتية المتداولة في جميع دول العالم. وتعتبر هذه الجزيرة التي تشرف عليها النرويج، نتيجة لموقعها الجغرافي، الموقع الآمن لاستضافة بنك الجينات، فهي في حالة جليد دائمة، الأمر الذي يمكن من حفظ البذور بأمان من دون الاعتماد على الكهرباء، ويضم البنك نحو 4.5 مليون عينة من البذور، تحتوي كل عينة في المتوسط على نحو 500 بذرة، وداخل البنك صندوق جينات نباتي خاص بكل دولة مع الاحتفاظ بسرية ميزات وخواص الجينات.

ففي حالة فقدان البذور بسبب وقوع كارثة طبيعية أو نووية أو حروب أو نقص في الموارد، تكون هناك إمكانية متوافرة لإعادة تكوين مجموعات البذور من جزيرة «سفالبارد».

وأخيرا يبقى سؤال: هل يمكن في عالمنا العربي إنشاء بنك عربي للبذور أو الجينات في موقع آمن مزود بالتجهيزات التقنية والفنية اللازمة، تحسبا لوقوع كوارث طبيعية أو حروب مدمرة أو نقص حاد في الموارد، لضمان حفظ واستمرارية الفصائل الرئيسية ذات الخصائص المميزة، من أنواع بذور المحاصيل الزراعية والأغذية الأساسية، إذا ما اندثرت أو انقرضت أو فقدت من محيطها الطبيعي، الأمر الذي يعتبر مساهمة ضرورية لتحقيق الأمن الغذائي وتلبية احتياجات الأجيال المقبلة من الغذاء في المستقبل؟