باريس تتعرف على «شرق النساء» من خلال فساتين جداتهن

الفلسطينية وداد قعوار أعلنت الجهاد بالتطريز.. والمصمم لاكروا انتقى المعروضات

TT

قولي لي ما تطرزين أقول لك من أنت. ففي صالة دوارة مثل برج متصاعد، وفي أجواء تخيم عليها العتمة، تلألأت على الجدران السوداء لمتحف «رصيف برانلي» لتراث الحضارات القديمة في باريس، مجموعة مختارة من الأثواب النسائية من منطقة ما كان يسمى بالهلال الخصيب، تطرز صدورها وأذيالها وأكمامها نقوش حمراء وبرتقالية وخضراء، بغرزة الصليب التي كانت تجيدها كل بنات المنطقة.

إنه معرض فريد من نوعه في هذا المتحف الذي يعود الفضل في تشييده إلى الرئيس السابق جاك شيراك الذي عود زائريه على تقديم الفنون القديمة والبدائية للهند وأفريقيا وشرق آسيا. وقد اختار له منظموه عنوان «شرق النساء». وتولى الإشراف على الرؤية الفنية له مصمم الأزياء الفرنسي الشهير كريستيان لاكروا.

أمس، ومع الساعات الصباحية الأولى لتدشين المعرض، برعاية السيدة الفرنسية الأولى كارلا ساركوزي، كان مصورو الصحف والقنوات التلفزيونية يستقرون مع كاميراتهم في كل ممراته ويركزون العدسات على فن من فنون الخياطة تجاوز وظيفته الأصلية ليصبح تاريخا حضاريا يطالب بالصيانة وتراثا وطنيا لا بد من حفظه، خصوصا بعد محاولات إسرائيلية مستميتة لنسبه إلى ثقافتها. ولعل ما تقوم به سيدات فلسطينيات ولبنانيات وسوريات في هذا المجال، يستحق الإشادة والتقدير، وفي مقدمة هؤلاء «المجاهدات بالخيط والإبرة» وداد قعوار، صاحبة المجموعة الكبرى من الفساتين الفلسطينية المطرزة القديمة، ومؤلفة الكثير من الكتب والمقالات والمحاضرات حول هذا الفن الجميل.

أراد القائمون على المعرض، وبينهم اللبنانية هناء شدياق، مسؤولة مجموعات الثياب الأفريقية والشرق أوسطية في المتحف، أن يكرموا نساء الشرق العربي من خلال تقديم وجه آخر لهن، غير معروف لدى عموم الفرنسيين، وذلك بعرض 150 زيا تتراوح ما بين ثياب الأطفال وفساتين الأعراس والقفاطين والإزارات المختلفة وحلي الزينة وأوشحة الرأس وأحجبة الوجه، تعود إلى القرنين الماضيين وتكشف الأناقة الباذخة التي تميزت بها الأمهات والجدات المشرقيات في بيوتهن وداخل مجتمعاتهن.

ما العلاقة بين لاكروا وهذه المعروضات؟ لقد اشتهر المصمم بميله الشديد إلى المطرزات الراقية والنقوش المتداخلة والألوان الحارة. ولهذا وقع عليه الاختيار لكي يكون الفنان الذي ينتقي مادة هذا المعرض، بما يملك من خبرة في رسم المسار الفني للمعروضات ووضعها في الإطار المناسب لها. وهكذا رأينا الفضيات محفوظة في خزائن أفقية، والفساتين والعباءات مشرعة الأكمام ومعلقة وراء نوافذ زجاجية عمودية، أما أرضية صالات العرض، فقد فرشت بسجاد جرى تفصيله على المقاس، ذي نسيج خشن ونقوش شرقية منقولة من السجاد التركي والفارسي التقليدي.

توزعت المعروضات واللوحات التي تروي تاريخ المنطقة، على عدة مجموعات، مثل: «نساء سورية» و«نساء لبنان» و«نساء فلسطين» و«نساء الأردن» و«نساء البادية» أو«صحراء سيناء». وأسهم لاكروا في البحث التوثيقي للفنون الكسائية لكل بلد. وهو بقراره توزيع الإنارة بشكل خافت، أسهم في توكيد الفكرة التي كان يحملها الغربيون عن نساء الشرق كطلسم محاط بالغموض. لكن المعرض لا يزيح النقاب عن ذلك السر الاجتماعي فحسب، بل يكشف أنواع المهارات اليدوية التي امتلكتها تلك النساء، حين كان التطريز مادة تثقيفية لا بد أن تتقنها كل فتاة وصبية، لكي تسهم في تحضير جهاز عرسها، على الأقل. لذلك، كانت الزائرات الفرنسيات تقفن مبهورات أمام روعة تلك التطاريز وانسجام الألوان فيها وأسلوب النقش الذي يتركز في الصدر والأذيال. بالإضافة إلى اللوحات الشارحة والغنية بالمعلومات، باللغتين الفرنسية والإنجليزية، كانت هناك شاشات صغيرة تعرض مقاطع من أفلام عربية قديمة، بينها واحد تؤدي فيه الراقصة المصرية سامية جمال دور بدوية من سيناء، بكل السحر الكامن في العينين السوداوين المطلتين من وراء نقاب شفاف.

ولا يملك زائر المعرض إلا أن يقارن بين مهارات أولئك النسوة الفذات و«الجهل المدقع» للحفيدات اللواتي لا تجيد غالبيتهن، اليوم، تثبيت زر مقطوع في قميص. ذلك أن مهمة الحفاظ على هذا التراث ونقله إلى الأجيال الجديدة من الشابات هو «جهاد وطني» من نوع آخر، فضلا عن كونه فنا لا يجوز التفريط فيه. وروت الرسامة الفلسطينية المعروفة جمانة الحسيني أنها في ساعات الانتظار الطويل المجحف الذي يفرضه عليها الجنود الإسرائيليون، عند عبورها جسر الحسين بين الأردن والضفة الغربية، في طريقها إلى القدس، كانت تقتل الوقت بالتطريز، وكأنها تتحدى العدو بما تملكه من حضارة لا تتوافر له.