أميركيون وسعوديون يخوضون مغامرة العيش في الربع الخالي

استمعوا لعزف الربابة وحديث الأيام الصعبة

جلسات السمر المسائية حافلة بقصص التراث وإنشاد الشعر وتجاذب أطراف الحديث
TT

ما زالت كثبان الرمال المرتفعة التي يلفحها الهجير في صحراء الربع الخالي، تختزن الكثير من الأسرار والغموض، كما تؤدي قسماتها الملتوية مسرحا تتراقص فوقه أشعة الشمس وضياء القمر، مما يكسب المكان رونقا ساحرا يجتذب المغامرين.

وبالنسبة لشركة «أرامكو السعودية»، رائدة صناعة النفط العالمية، فإن استكشاف الربع الخالي، كغيره من أرجاء السعودية، لم يكن تجربة حديثة، فقد عرفت هذه الشركة رحلات الاستكشاف منذ عمليات التنقيب التي قادها رجلان امتلكا قدرا وافيا من الصبر والموهبة، هما: ماكس ستاينكي، وخميس بن رمثان، وأدت في 4 مارس (آذار) 1938 لتدفق البترول من أول بئر اختبارية في الظهران.

وعلى مدى السنين، كانت رمال الربع الخالي تجتذب المستكشفين في «أرامكو السعودية»؛ حيث أسفرت تلك الرحلات عن بزوغ واحد من أكبر مشاريع الطاقة في العالم، وهو مشروع الشيبة، الذي افتتح عام 1999.

ولا يقتصر البحث في أرجاء الربع الخالي عن الطاقة؛ فهذه المنطقة، التي كانت موئلا للقبائل المهاجرة، مثلت على الدوام منطقة اجتذاب للمستكشفين الراغبين في البحث عن الدراسات الجغرافية والبشرية. ومؤخرا، قامت مجموعة من المستكشفين والمغامرين، من «أرامكو السعودية» إضافة إلى آخرين من خارجها برحلة للربع الخالي، جمعت بين المغامرة والاستكشاف.

ويعتبر الربع الخالي أكبر صحاري العالم مترامية الأطراف، الذي يشكل معظم مساحة الثلث الجنوبي من شبه الجزيرة العربية بواقع 650 ألف كيلومتر مربع أو ما يعادل 250 ألف ميل مربع تقريبا.

وتولى قريان الهاجري، وهو مهندس إنشاءات يعمل في «أرامكو السعودية»، وخبير بأعماق الصحراء التخطيط لقافلة حملت اسم «الرحلة إلى الماضي»، ضمت بالإضافة إليه فريقا مكونا من الرحالة الأميركي برادلي ويلكينسون، وهو موظف علاقات عامة في «أرامكو السعودية» كذلك، وزميليه في العمل الأميركيين تود نيمز وجيمز دوقان، بالإضافة إلى نبيل الشيخ، الباحث في متحف الدمام الإقليمي، وفهد الدجاني، وهو مصور مستقل.

كان الهاجري، وهو الرحالة الصحراوي المحنك، يتحرك ماشيا على قدميه في كثير من الأحيان بين الجمال لتوجيه القافلة إلى محطتها التالية ساردا على رفاقه القصص الممتعة.

وقد تولى 3 من أفراد الفريق المكون من 6 أشخاص تصوير وتوثيق مراحل الرحلة؛ حيث تولى المصورون الشباب: نيمز، ودوقان، والدجاني، جنبا إلى جنب، التقاط أفضل الصور الفوتوغرافية ومقاطع الفيديو من أجل توثيق الرحلة والقصص. في حين كان عالم الآثار الجيولوجي نبيل الشيخ يتجول في كل مكان تتوقف فيه القافلة لجمع آثار النشاط البشري والأدلة الجيولوجية الشاهدة على ما كان يحدث في تلك الأماكن، بينما سجل ويلكينسون الكثير من الوقائع والتصورات والتأملات العميقة التي أفرزتها الرحلة.

بدأ مسار الرحلة من الظهران؛ حيث انطلق الفريق منها إلى حرض، ثم بدأت الرحلة بالسيارات، على طريق عمل الهاجري وفريقه على إنشائه مسبقا، لمسافة 170 كيلومترا تقريبا جنوبا باتجاه بئر ندقان التي يعتقد أن مياهها المعدنية الدافئة المتدفقة من باطن الأرض تتمتع بخواص علاجية. وبعد الاستمتاع بالمياه الدافئة، توغل فريق الرحلة في أعماق الصحراء ليلتقي مع فريق المساندة والجمال، وبدت السيارات لوهلة وكأنها تطفو على رمال الصحراء. وعلى بعد 240 كيلومترا توقفت الوجهة النهائية في تلك المرحلة، عند حفرة نيازك أم الحديد.

وكان مقررا أن يقطع الفريق مسافة 35 كيلومترا في اليوم؛ بحيث يقطعون المسافة بأكملها خلال أسبوع، لكن القافلة كانت تقطع مسافة 40 كيلومترا في اليوم فأنهت الرحلة في 6 أيام.

وقد اتبعت القافلة طرق الترحال البدوية التقليدية مع إدخال بعض التعديلات الحديثة عليها. وتزود المرتحلون التزاما منهم بمتطلبات السلامة بهواتف متصلة بالأقمار الصناعية ومركبات تحمل الطعام والماء والخيام وفريق ينقل المخيم كل يوم. وبعكس الجمال التي كانت تتهادى على مهل مخلفة وراءها آثار أخفافها فوق الكثبان قبل أن تمحوها الرياح، كانت السيارات تعلق في الرمال من وقت لآخر.

وقد كان مسار الرحلة يمر عبر آبار حفرت عميقا في الصحراء قامت «أرامكو» بحفر بعضها، في حين حفر البدو بعضها الآخر، وإحدى هذه الآبار هي بئر الحدباء، التي حفرها بأيديهما والدا بخيت بطحان المري، وهو أحد أفراد قبيلة المري المعروفين ومالك الجمال المستخدمة في الرحلة، وقد قدم هو وولده بطحان المساعدة اللازمة، وكانت تجربة فريدة لأفراد الفريق، خاصة الأميركيين منهم، التحلق في المساء داخل المخيم للتسامر حول النار، والاستماع لأحاديث المري وأفراد من قبيلته عن الصحراء، وقصص الرجال الذين سكنوها أو عبروا أرجاءها.

ومن بين الملاحظات التي سجلها الرحالة: أن رجال القبائل هناك لديهم معرفة وألفة بالصحراء، حتى إن تجربة قيادة السيارات ذات الدفع الرباعي بالنسبة إليهم سلسة، ولاحظ أحد أفراد الرحلة أن القيادة في الصحراء بالنسبة لهم تماثل قيادة شخص من سكان المدينة لسيارته إلى مطعمه المفضل من أجل الاستمتاع بوجبة عشاء.

وفي شتاء الربع الخالي، تحلق أفراد الرحلة داخل خيمة نصبت فوق الرمال للاستماع لعازف الربابة، وترديد الأغاني البدوية التراثية، كما كانت جلسات السمر المسائية حافلة بقصص التراث، وإنشاد الشعر وتجاذب أطراف الحديث، بالإضافة لتناول المشروبات الساخنة كالقهوة والشاي وحليب النوق.

وقد وفرت الرحلة فرصة لكل من قالط الأيداء، كبير إخصائيي التنقيب في المنطقة الجنوبية، وسعيد الهاجري، كبير إخصائيي التنقيب من قسم التنقيب في المنطقة الشرقية، العيش في عطلة نهاية الأسبوع في أجواء حياة الصحراء على طريقة أجدادهم. وقال الهاجري: «لقد تمكنت من إلقاء نظرة متأنية عن كثب على التضاريس الصحراوية وأنا على ظهر الجمل، وتمكنت من تجربة الطريقة التي كان البدو يسافرون بها قبل مائة عام». ويضيف أن هذه التجربة تركت أثرا عميقا في النفس. وقال: «ستستسلم حواسك للهدوء والسكينة والصفاء التي تلف المكان، فالصمت يفرض نفسه بقوة بحيث يتعذر عليك عدم سماع صوته القوي».

وفي محطة من محطات الرحلة، خيم الفريق في إحدى الليالي قرب بئر العبيلة الموجودة عند أكثر نقطة منخفضة في قعر بحيرة قديمة. وكانت هناك قطعة كبيرة من الخشب والطحالب المتحجرة الشاهدة على أيام وارفة غابرة مضت. وعلى مقربة من المكان لاحظ الفريق 4 قبور حفرت في أرض قعر البحيرة الصلبة؛ حيث تذكرهم بقسوة الطبيعة في الربع الخالي.

وفي صباح اليوم التالي انطلق الفريق صوب بئر أم الحديد، وعند صعود أفراده على قمة آخر كثيب مطل على البئر لمحت عيونهم في الأسفل بئرا ممتلئة بمياه نفيسة تنبع من أعماق الأرض. ولا يخطر على بال الناظر من الأعلى إلى البئر سوى أن يتخيل الشجاعة والقوة والعزيمة التي تطلبها حفر الأرض عميقا على أمل العثور على الماء فقط.

ويشرف فرج طالب المري، الذي مضى من عمره 88 عاما، بعيونه الشابة على البئر وعلى تدفق المياه منها. وقد حضر المري وابنه إلى موقع المخيم في ذلك المساء لتناول العشاء، وراح يسمع الحاضرين قصصا من تجاربه في العيش في الصحراء.

ولاحظ الفريق أن البدو الذين كانوا يلتقون بهم، أو أولئك الذين يتعاملون معهم أو يتسامرون معهم، يعاملون زائريهم «باحترام ولطف كبيرين كبر الصحراء نفسها».

وقد كانت الوجهة النهائية للفريق حفرة نيازك أم الحديد. وصادف الوصول إلى هناك قبيل غروب الشمس، ليمد الفريق بنشوة آسرة. يعرف الرحالة المكان الذي يحمل اسمه رهبة في النفوس؛ حيث يرمز لحفرة النيزك العظيم الذي سقط في يوم من الأيام من السماء فأنار ظلمة الليل شاقا طريقه عبر الأرض ومخلفا وراءه أثرا في الرمال التي انصهرت زجاجا من حرارته.

وبالنسبة للمصور فهد الدجاني، الذي عبر لوفد من جامعة هارفارد زار السعودية مؤخرا عن هذه المغامرة، بالقول: «لطالما أخبرني والدي بقصص عن الأيام الماضية، لكنني لم أستطع أبدا أن أفهمها تماما، أما اليوم فقد فهمت ما كان يقوله وعلمت الجذور التي أتحدر منها».