«دار بلارج».. من مستشفى للقالق إلى مؤسسة لرعاية الثقافة بمراكش

أوقفها أمير مغربي للعناية بالطيور معتلة الصحة

جانب من الأنشطة التي تنظمها مؤسسة «دار بلارج» («الشرق الأوسط»)
TT

في أقصوصة، بعنوان «الرجال اللقالق» ينطلق الكاتب الإسباني، خوان غويتسولو، من حكاية مغربية عتيقة، تقول إن الفلاحين الأمازيغ (البربر) كانوا يعتبرون اللقالق كائنات بشرية تتلبس مؤقتا شكلها كطيور بغية السفر والتعرف على مناطق أخرى، فإذا عادت إلى البلد استعادت شكلها الأول. وفي المقدمة، التي وضعها غويتسولو لهذه الأقصوصة، نقرأ أنه، ما بين 1803 و1804، «عمد الأمير مولاي عبد السلام، نجل السلطان محمد بن عبد الله، وكان رجلا فقيها يهوى الموسيقى والشعر، إلى تحويل منزل كبير في المدينة العتيقة (لعله دار بلارج الحالية) إلى حبوس موقوف للعناية باللقالق معتلة الصحة. ورغبة منه في توفير أفضل الظروف لعلاجها، خصص للملجأ مداخيل كراء أحد «الفنادق». لقد أعيد بناء الملجأ القديم، بعد خرابه، في ثلاثينات القرن الماضي، حسب قواعد المعمار التقليدي في مراكش، ... وفي ما بين 1950 و1985 تم استعمال المبنى كمدرسة، ثم ترك مجددا يواجه مصيره، بعد ذلك التاريخ. عندما زرت المكان، في أواسط التسعينات، وجدت أن الحمام قد احتله، كما ألفيت ساحته الجميلة مغطاة بجثامين طيور قضت نحبها، وبالريش والفضلات. واقتنت السيدة سوزان بيدرمان، في سنة 1998، ملجأ اللقالق القديم لإحداث مؤسسة لرعاية الثقافة بالمغرب تحمل اسم «دار بلارج».

ذكرى الأمير مولاي عبد السلام، المرتبطة، هنا، بحكاية «دار بلارج»، نجدها حاضرة في مكان آخر من مراكش، يسمى عرصة (حديقة) مولاي عبد السلام. وفي مراكش، لا يمكن الحديث عن تاريخ عرصة مولاي عبد السلام «من دون استحضار اسم السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله (1710 - 1790)، الذي تولى حكم المغرب في منتصف القرن الثامن عشر، كما يقترن الحديث عنها بحكاية فندق «المامونية» الشهير، الذي يستمد اسمه من الحدائق، التي عرفت في الماضي «حديقة مولاي المامون».

علاقة «حديقة مولاي عبد السلام» و«حديقة مولاي المامون»، بالسلطان العلوي، سيدي محمد بن عبد الله، تجد صداها في بعض الكتابات التاريخية التي تذهب إلى أن كثيرا من البساتين والحدائق الموجودة في المدينة الحمراء كانت من تخطيط هذا السلطان، الذي «كان كلما بلغ أحد أبنائه سن الزواج زوجه ووهب له مسكنا خارج القصبة وأحاطه بالبساتين والجنان». وكانت «حديقة مولاي المامون»، هي هدية زواج السلطان العلوي إلى ابنه، الأمير مولاي المامون، في حين كان من نصيب أبناء السلطان الآخرين، وضمنهم الأمير مولاي عبد السلام، حدائق أخرى، في مراكش.

وتذكر كتابات المؤرخين أن مولاي المامون جعل من هدية والده مكانا للنزهة، وهي العادة التي طبعت مراكش وميزت حياة المراكشيين على مدى قرون، من جهة خروجهم خلال العطلات إلى حدائق المدينة لقضاء ساعات من المتعة والنزهة، مصطحبين معهم فرق الموسيقى و«متسلحين» بأكلة «الطنجية» المراكشية الشهيرة، وغيرها من عناوين المطبخ المراكشي.

وفي الوقت الذي تحولت فيه «حديقة مولاي المامون» إلى فندق «المامونية» الأسطوري، الذي ظل يستقبل منذ أن فتح أبوابه عام 1923 مشاهير السياسة والاقتصاد والفن في العالم، حافظت «حديقة مولاي عبد السلام»، التي تقع بجانب «باب النقب»، قرب «قصر البلدية» وعلى المسافة نفسها من فندق «المامونية» وصومعة ومسجد «الكتبية»، على وظيفتها كمتنفس أخضر في المدينة الحمراء.

من جهته، يسرد الباحث المغربي محمد آيت العميم رواية مختلفة عن غويتسولو، بالقول إن تاريخ إنشاء «دار بلارج»، يعود إلى فترة حكم الموحدين (1123 - 1268)، متحدثا عن دار ثانية، أحدثت لنفس الغاية بمدينة فاس. وقال آيت العميم إن مكانة الطيور عند المسلمين كانت وراء العناية التي ظل يوليها المغاربة للطيور والحيوانات الأليفة بشكل عام، وذلك حتى قبل أن تخرج النجمة الفرنسية بريجيت باردو بدعواتها للرفق بالحيوان. واستحضر، في هذا السياق، قصة النبي سليمان مع طائر الهدهد، وجملة من الأحاديث النبوية في موضوع الرفق بالحيوان، مشددا على أن جهلنا بماضينا هو الذي جعلنا دائما في موقع الدفاع أمام المدافعين عن حقوق الحيوان في الغرب، مع أن مكتبتنا القديمة زاخرة بأكثر المصنفات رصدا لعلاقة المسلمين بالحيوان والعناية والرفق به.

وأضاف آيت العميم أن اللقلاق يبقى من الطيور التي كتبت في شأنها الأساطير، خاصة أنها تتخذ من الأسوار العالية ومن الصوامع أعشاشا لها. وأرجع آيت العميم كلمة «بلارج»، بالعامية المغربية، ومرادف «اللقلاق» في الفصحى، إلى اللغة اليونانية، وتعني «بلارغو»، وتم تطويعها إلى اللسان الدارج حتى صارت «بلارج». وكانت سوزان بيدرمان، وهي مهندسة ديكور سويسرية قد جاءت إلى مراكش في بداية التسعينات، برفقة زوجها المهندس ماكس إليوت، لتجد نفسها مفتونة ومأخوذة بسحر المدينة الحمراء، بألوانها وأسواقها، حيث شعرت بانجذاب غريب نحو مراكش، من خلال عيون أطفالها المشعة بالحاجة إلى شيء ما، ولذلك فكرت في أن تقوم بعمل ما لصالح المدينة وأطفالها. فكرت سوزان بيدرمان، في بداية الأمر، في إنشاء دار للأيتام، ولما التقت سفيرا ألمانيا سابقا في المغرب، استقر، بدوره، بمراكش، بعد انتهاء مهامه الدبلوماسية، اقترح عليها التفكير في الاستثمار في الفن والثقافة، بعد أن بين لها أن هناك عطشا فنيا وثقافيا بالمدينة. وبعد أن أرشدها غويتسولو إلى «دار بلارج»، ستقتني سوزان بيدرمان البناية، قبل أن تقوم بترميمها وإصلاحها.

وتتكون «دار بلارج»، التي تحولت إلى مؤسسة لرعاية الثقافة، من بهو من 200 متر مربع محاط بأربع قاعات كبيرة، ثلاث منها تستعمل كقاعات للعروض، أما الرابعة فمخصصة لاحتساء الشاي وللاستراحة واللقاءات. كما تحتوي على قبو يتكون من قاعتين تقام فيهما الورشات الفنية والموسيقية المفتوحة في وجه الأطفال وشباب أحياء المدينة. وهي ورشات مجانية وفضاءات لتلقين الممارسات الفنية التقليدية المحلية. ونظمت الدار، على مدى السنوات الماضية، لقاءات ثقافية وأمسيات حكي وعروضا مسرحية وحفلات، يتم اختيار المناسبات والأعياد الدينية، مثل شهر رمضان، موعدا لها. وخلال حفل التأبين المؤثر، الذي أقيم بـ «دار بلارج»، ترحما على روح سوزان بيدرمان، استعادت مجموعة من الأصدقاء كثيرا من المواقف والذكريات المشتركة مع الراحلة.

من بين الحاضرين، تحدث غويتسولو عن اليوم الذي قصد فيه «دار بلارج» مرفوقا بالراحلة، قبل أن يتوقف عند حكاية تلخص لطبيعة تعامل بعض المسؤولين مع الشأن الثقافي في مدينة السبعة رجال، في زمن طغت فيه لغة المال واشتد فيه زحف الإسمنت.

وتعود الحكاية، كما سردها غويتسولو، أمام الحضور، إلى يوم افتتاح «مؤسسة دار بلارج لرعاية الثقافة». يومها، قال أحد المسؤولين، على مستوى المجلس الجماعي للمدينة، لبعض مرافقيه، وقد كانوا في دردشة جانبية: «كان الأجدى أن تستغل هذه الدار كمرقص. جملة سقطت، مباشرة، في أذن سوزان بيدرمان إليوت، بنفس حدة سقوطها في أذن خوان غويتسولو.

وخلال نفس حفل التأبين، قالت مها المادي، المكلفة بإدارة الدار، بكثير من الأسف والدموع، إن المدينة الحمراء لم تلتفت إلى العمل الذي كانت تقوم به الراحلة إلا بعد فوات الأوان. وحين لم تسعفها دموعها، خاطبت غويتسولو، قائلة: «أظن أن سوزان تحولت إلى لقلاق، و«دار بلارج» هي عش مفتوح أمام كل مثقف لبسته حكاية اللقالق، رمز الحرية والرغبة في معرفة العالم. لقد حلقت سوزان فعلا. حلقت عاليا. لكنها، كما لقلاق حكاية «الرجال اللقالق»، ستتذكر دوما ناسها ودارها وأصدقاءها».