بيلا تار يقدم شخصيتين تتألمان.. طوال الوقت

TT

المؤكد أن عدد الذين غادروا القاعة خلال عرض فيلم بيلا تار الجديد «حصان تورينو» هم أكثر من عدد اللقطات التي يحتويها هذا الفيلم المعجون بأسلوب المخرج المجري الذي إما أن تحب أفلامه تماما أو تكرهها كليا من دون موقف وسط.

لقطاته الطويلة التي تدوم وتدوم. حكاياته المؤلفة من مشاهد تواصل الالتفاف حول نفسها مرات ومرات، أسلوبه القشيب الذي يبدو كما لو أن مخرجه حقق فيلمه ببطاقة مصرفية، كلها من علامات بيلا تار الذي، رغم كل تلك اللقطات وتلك المشاهد وذلك الأسلوب، هو من فناني السينما من دون أي ريب.

الموضوع الذي يتطرق إليه المخرج المجري بيلا تار مرة بعد مرة هو البؤس. إنه ليس الموضوع الذي يريد معظم الناس مشاهدته، لكنه الموضوع الذي ينبري إليه بضعة مخرجين حول العالم مميزين أساسا برغبتهم في عدم مشاركة هذا المعظم من الناس أهواءهم ومناهج تفكيرهم وألوان حياتهم.

هم وحيدون كشخصياتهم وبيلا تار كذلك.

المرء لا يحتاج إلى اختيار مشاهد تدل على صور البؤس في أفلامه، بل يكفي أن يذكر هذه الأفلام. كل فيلم وكل الأفلام التي حققها واهتم بها هي انعكاس لبؤس الناس في عالمه. الصعوبة هي البحث عن كيف يثير هذا الموضوع الداكن اهتمام مثقفي ونقاد السينما حول العالم؟ لماذا نجد في هذه الأفلام حافزا فنيا واضحا؟ لماذا لا تنضوي أعماله تحت فئة الميلودراميات التي دأبت عليها سينمات أخرى؟

الجواب عن هذه الأسئلة يكمن في أن بيلا تار لا يلفق ما يعرضه. لكي يفعل ذلك عليه أولا أن يكون راويا قصصيا، لكنه لا يحقق أفلامه ليروي قصة، بل يحققها وفي باله المحيط الاجتماعي العام والصدام الشخصي بين وضع وآخر. بين قديم وحديث. ثابت ومتغير. أحداثه القليلة، حتى في فيلم «تانغو الشيطان» الذي زادت مدة عرضه على السبع ساعات (سبع ساعات و50 دقيقة تحديدا) والذي شوهد لأول مرة على شاشة مهرجان تورونتو سنة إنتاجه (ثم على اسطوانة) لا تشكل محركا ودافعا سرديا، بل تبقى جزءا من العمل المنتمي إلى الحياة. بالتالي هو جزء من حياة مرصودة. حين سألته الإيضاح قال: «الحياة لا توفر القصص كما نراها عادة. القصة لكي تقع أحيانا ما تتطلب سنوات، هذا إذا انتهت أحداثها عند حد معين».

حين يدخل المرء أعماله يجد أن العالم الذي يختار هذا المخرج تصويره هو الفيلم نفسه. هذا العالم قد يكون البيت وقد يكون القرية أو البلدة، أو أي موقع منعزل (عادة)، لكنه العالم كله بالنسبة لأبطاله الذين لا يعرفون من الحياة سوى محيطهم القريب.

لذلك يصدق المرء كل ما يقدمه المخرج إليه. يصدق هذه السماء الضبابية وهي تمطر والبرد وهو يقرص الأبدان ويصدق الشخصيات الواقعة في العوز والمعانية من تراكماته ونتائجه. يصدق ما في الفيلم بأسره من قراءات سواء وافق عليه أو تحفظ. فهذا ليس مهما. فيلم لبيلا تار هو رأي ورؤية ومخرج وبسبب حسن المعالجة يحترم المشاهد ما يراه وما يقرأه شريطة أن يقبل شروط المخرج الفنية. التصوير المدقع في الرتابة. الإيقاع البطيء والحركة المحدودة والأحداث المتباعدة. أفلامه ليست جمالية - تزيينية (لا في التلقي الذهني ولا في الاستقبال البصري) والبعض في المجر وصفها بأنها «ليست جميلة» وفي مطلع الثمانينات بعد ثلاثة أفلام له فقط، وصف بأنه «مخرج البشاعة».

لكن هذا جزء من الصورة الكبيرة. هناك الأسلوب الذي يعتمده المخرج لعمله. تلك اللقطات الطويلة زمنا كما لو أن الفيلم لا يعرف مقص المونتير والتصوير من بعيد ليحافظ على مسافة ليس عليه، كمخرج، تجاوزها صوب شخصياته. هذا ما يجعل المسافة قائمة أساسا بين المخرج وبين الفيلم كمادة مسرودة. لولا تلك المسافة لما كانت هناك حاجة لتقديم الأفلام بهذا الأسلوب ولتحول الفيلم من فن للقراءة إلى حكاية للمشاهدة. كما قال لهذا الناقد في حديث غير صحافي تم بيننا سنة 2001.

فيلم بيلا تار، أي فيلم لبيلا تار، يصفع الناظر بمشاهد من الصعب أن تمحى من البال. في الحقيقة، فيلمه الطويل جدا «تانغو الشيطان» كله يبقى في البال كما لو شوهد بالأمس بمشاهده الطويلة، معايشاته المتمددة التي لا يمكن معرفة متى ستنتهي صوب معايشة أخرى. بلقطاته التي تحرص على تأطير البيئة المنتقلة إلى الشاشة. بذلك يبقيها تحت الضوء وفي المقدمة. الساحة الكبيرة التي تتحرك عليها الأشياء والشخصيات معا. إنه كما لو أن المخرج يخشى (أو ربما يدرك) أنه لو اقترب كثيرا من الشخصيات التي لديه لاضطر المشاهد لإهمال ذلك المحيط. على ذلك يسمح لنفسه بلقطات قريبة عند الضرورة خصوصا في الحالات التي تعكس البؤس كاملا.

أيام بلا زمن الفيلم الجديد يبدأ بذكر حادثة تردد أنها وقعت مع نيتشه في تورينو سنة 1889 حينما شاهد حصانا يتلقى الضرب المبرح من صاحبه، فما كان منه إلا أن هرع إلى الحصان وحضن رأسه وأخذ يبكي. وحسب ما يرد في مقدمة مطبوعة قبل المشهد الأول في الفيلم، سقط الفيلسوف مريضا من بعد ذلك وحتى وفاته. لكن الفيلم لا يريد أن يبحث في تصرف نيتشه أو دوافعه أو حتى ما حدث له من مرض، بل يسأل «.... لكن ما الذي حدث للحصان؟».

وينطلق المشهد الأول: الكاميرا على حصان يجر عربة ثقيلة وفوقها رجل يحثه بالسوط على المضي. المكان ريفي والكاميرا تتراجع إلى الوراء وتمسح جانب الحصان والعربة ومن فوقها ببطء لتعود بعد ذلك إلى الجزء الأمامي من الحصان، كل ذلك بلقطة طويلة واحدة لا تريد أن تنتهي وتستمر طوال المشهد (نحو أربع دقائق). في نهاية تلك اللقطة من الممكن مشاهدة الحصان وقد أخذت خطواته تقصر وعنقه يميل إلى تحت دلالة على تعبه. هنا ينتهي المشهد ليبدأ آخر: الحصان والعربة ومن عليهما يصلون إلى مبتغاهم: البيت الريفي الذي يقطنه الرجل والمؤلف من دار بدائية ومبنى نصفه إسطبل ونصفه الثاني لكل شيء آخر. بنفس التفاصيل، نرى ابنة الرجل (امرأة في الثلاثينات على الأرجح) وهي تساعد أباها في فك الحصان عن العربة وإدخاله الإسطبل قبل أن يتوجها إلى البيت في الوقت الذي تنطلق فيه عاصفة من الرياح الشديدة ستستمر معنا للأيام الستة التالية.

ليس هنا الكثير مما قد يحدث في بيت معزول عن العالم، بلا كهرباء وبلا ماء (إلا من بئر قريب) وبلا أثاث. في الحقيقة لا نعرف إذا كنا نعايش شخصيات تنتمي إلى أواخر القرن التاسع عشر أو منتصف عشرينات القرن العشرين، أو بعد ذلك أو قبله. ليس هناك من حديث حول الحياة أو الزمن أو أي شيء آخر. الكلمات المتبادلة بين الأب وابنته أقل من فقرة واحدة من هذا الموضوع. فقط حين يزور ما يبدو طبيب القرية القريبة (التي لن نشاهدها بالطبع) البيت لشراء بعض الكحول، نمضي نحو ثلاث دقائق يتحدث فيها ذاك عن السبب الذي يهاجر فيه الناس من تلك القرية ثم يعودون إليها بعد أن واجهوا معضلة أن لا مكان لهم يهاجرون إليه. تماما كما سنرى الرجل وابنته يحاولان ذلك في اليوم السادس.

خلال الأيام الثاني والثالث والرابع والخامس، فإن الروتين يبدأ بالأب وهو يستيقظ صباحا ويجلس على حافة السرير ويكح فتتقدم منه ابنته لتخلع عنه بعض ثيابه الفوقية ولتلبسه الثياب التي سيخرج بها. كون يده اليمنى معطوبة لا يستطيع حراكها يجعلها مسؤولة عن ذلك مرتين كل يوم. بعد ذلك، يجلس الاثنان ليأكلا ثمرتين من البطاطا المسلوقة. في البداية، نلحظ أن البطاطا ساخنة يطبق عليها الأب ملتهما إياها قبل أن تبرد حارقا أصابع يده التي يأكل بها ولسانه. في اليومين الأخيرين تبدو تلك الوجبة باردة والبطاطا ليست مسلوقة تماما. الأب في اليوم الخامس يحث ابنته على أن تأكل. في اليوم السادس يتوقف هو أيضا عن الأكل. والحصان؟ كان توقف عن الأكل قبل ثلاثة أيام ثم عن الشرب ورفض أن يتم ربطه إلى تلك العربة ويؤمر فيمشي. ثم..... جفت الماء من البئر.

هنا حط اليوم السادس وكان لا بد من الرحيل. المشهد ساحر: يتم إخراج الحصان وربطه بمؤخرة العربة (طالما يرفض أن يجرها ستجره) والمرأة تشد العربة إلى الأمام (بدل الحصان) والأب يساندها قدر استطاعته. وضعا في العربة كل لزوم «السفر». ينطلق الجميع. يبتعدون عن البيت (واللقطة ثابتة في مكانها) يصبحون في الأفق. هناك شجرة ذات جذعين متلاصقين. يصل الراحلون إلى تلك الشجرة ويمضون بعدها ويختفون عن الأفق. تبقى اللقطة في مكانها والمشهد خال من البشر (ومن الحصان) ثم.... ها هم يطلون من جديد في قلب ذلك الأفق وبعد حين يعودون إلى البيت ذاته. لقد عاد الرجل وابنته والحصان لأنهم لا يعرفون أي مكان آخر يمضون إليه.

هذا ليس فيلما لكل المشاهدين. أفلام المخرج عادة لا تجذب حتى النقاد المدللين فما البال بالجمهور الذي يريد أن يستشف شيئا يتواصل وإياه حين يراه ماثلا على الشاشة، لكن حين لا يكون في نية المخرج التعامل شعوريا مع شخصياته وإتاحة الفرصة أمامهم لتكوين ذلك الشعور، فإنه لن يكون مستعدا لمعاملة مماثلة مع مشاهديه. لذلك تحب أفلامه - إذا أردت - كما هي.

إنها قطع أقرب إلى التحف تصويرا وشعرا وتأملا، ما يمنعها أن تجتاز النطاق الضيق بالفعل وتصبح تحفا هو فقدانها الأمل. لا الأمل الكاذب الواصل إلى نهاية سعيدة حتى وإن لم تتم، بل أمل ناتج عن حب الحياة ذاتها.... هذا لا يزال من مزايا المخرج الراحل أندريه تاركوفسكي وحده.