«مسار» اللبناني سمير خداج يختصر مسيرة فنية مثقلة بذكريات الحرب

في معرضه البيروتي الذي يضم 200 لوحة وأعمالا حرفية وسمعية وبصرية

TT

في «مسار» سمير خداج، مسيرة طويلة من الفن الذي ينطوي على مخزون تاريخي وثقافي مستمد من حياة لبناني مهاجر نشأ على وقع الحرب اللبنانية ويومياتها الأليمة فكانت هي مصدر إلهام أعماله التي تنبض غضبا فتصور واقعا يرفض أو يمتنع خداج عن تفسيره، معتبرا أن كل ما في داخله أفرغه في هذه اللوحات التي لكل منها لحظتها التي قد تكون إما مرتبطة بالحالة العامة أو الخاصة. 200 لوحة تكاد تدور في الفضاء نفسه، اختارها خداج من بين مئات الأعمال التي أطلق فيها العنان لريشته لتكوّن عالما خاصا به وتشكل معرضه البيروتي في مركز بيال في وسط المدينة. اندفاعه في التعبير عن هذا الواقع الذي تعكسه «فوضى ألوانه الهادئة» يختصر هوية خداج الفنية بخصوصية اندماج ألوانها التي تجتمع بتناقضاتها لتنتج مجموعات مختلفة ومتشابهة في الوقت عينه. تأمل أعمال هذا الفنان والغوص في خفاياها يعكس احترافه لعبة الألوان وتلك النظرة التشاؤمية المستمدة من وقائع الحرب مع حرصه على عدم التقوقع في دائرة ألوان محددة، إذ تكاد ريشة خداج تشتمل على كل مكونات القاموس الفني. وقد جاء التعبير عن هذه الهواجس في لوحات تبدو بصورة أو بأخرى مثقلة بيوميات الحرب الحزينة باعتماد مادة الإكريليك على الخشب والورق والكرتون أيضا وبألوان تراوحت بين الترابية والأزرق والأصفر والبرتقالي والأحمر الزهري التي ربما تعكس محاولة منه لبث روح تفاؤلية ونظرة مفرحة. لكن وفي لوحات أخرى لم تخرج عناصر اللوحة من ألوانها الهادئة لا سيما منها الأبيض والأسود والرمادي كتلك التي تجسد الشجرة أو البحر بعيدا عن الصورة الطبيعية لهما، فتحولت مثلا الشجرة وأمواج البحر إلى صفحة رمادية بينما انقسمت لوحة المدينة ببناياتها الشاهقة إلى قسمين منها الملون ومنها الرمادي.. وأيضا، تأتي لوحات خداج مثقلة بشخصيات وأجساد نساء ورجال ووجوه جاءت في أعمال عدة منفردة في ما يشبه البورتريه الذي أسقط عليه خداج عوامل خارجية محولا إياه إلى رسم كاريكاتيري يخرج في ملامحه عن سياقه الطبيعي، وأحيانا أخرى يحوله إلى جزء لا يتجزأ من لوحة متكاملة العناصر تختصر ملحمة تاريخية أبطالها عنترة بن شداد وعبلة بنت مالك حينا، أو «ملحمة آنية» أبطالها شخصيات تدور في فلك الحياة بين ليل الأيام ونهارها بشمسها وقمرها، من دون أن تغيب الأسئلة التي تتمحور حول أمور وجودية عامة قد تكون عصية على الإجابة.

كذلك، فللزمن حصته في مجموعة خداج؛ إذ تكاد تشكل دفتر ذكريات أراده توثيقا لمراحل أو ربما للحظات، فها هي مثلا، تبدو أيام الأسبوع وكأنها العنوان الذي يذيل بعض اللوحات والذي يبقى تفسيره حكرا على صاحبها. فاختار أن يكون لكل يوم في الأسبوع لوحته التي تختصره، كما أنه ذهب بعيدا أيضا في تحديد تاريخ محدد مثل 5 مايو (أيار) 1995 وغيره من التواريخ التي تركت بصمة في حياته.

وفي لعبة ألوان خداج لمسات فنية من نوع آخر محورها «الكولاج» الذي شكل «عنصرا دخيلا ومحوريا» في أعماله. للخشب والزجاج، إضافة إلى الإضاءة، حصة أساسية في هذا السياق. إذ أتى الحضور جماليا ومكملا للموضوع الرئيسي الذي تدور حوله لوحاته من ناحية، ومعبرا عن هواجسه الفكرية والاجتماعية من ناحية أخرى.

وتتسع دائرة محتويات معرض «مسار» بحضور العروض السمعية والبصرية التي أنتجها خداج، إضافة إلى أعماله الحرفية اليدوية التي صنعتها يداه، فأتت على شكل «مجسمات حربية» اختصرت أيضا أدوات الحرب المستخدمة في المعارك، من أسلحة وألبسة وأجساد مقطعة.

لكن خداج اختار أن ينتقي من بين هذه المجموعة على اختلاف هويتها الفنية، تلك التي تمثل صورة المدينة بأبراجها الشاهقة التي تفتقر إلى الألوان و«المشتعلة» بإضاءة «كولاجية» مبتكرة، أن تزين مدخل المعرض وتشكل بوابة العبور إلى الأعمال الأخرى المعلقة على الجدران في الداخل.

أما في ما يتعلق بحياة سمير خداج فهو لبناني ولد في قرية كفر متى الشوفية عام 1939 وقد بدأ في مرحلة شبابه يبدي اهتماما تدريجيا بالفن المعاصر. فجال في معظم العواصم الأوروبية حيث اكتسب خبرات فنية حديثة عبر مشاركته في ورش رسم جماعية ومسرحيات عدة. لكن أعماله الفنية تراجعت وتيرتها بسبب الحرب الأهلية في لبنان على غرار معظم الكتاب والفنانين اللبنانيين من دون أن يتخلى عن العمل في مشاريع فنية مشتركة. فعرض عام 1989 في فندق «الكارلتون» في بيروت بالتعاون مع مارك موراني 10 لوحات تحمل إمضاءهما و60 لوحة من أعماله السابقة. وفي عام 1990، استقر في باريس حيث تابع أعماله الفنية في مستشفى «Cognac-Jay» وقد أسهم إحساسه بالغربة في إطلاق إبداعه الذي ظهر جليا عام 1992 في «مونتروي» خلال معرض «Eclats».

وفي أول مشروع خاص به عن الحرب عرض 300 لوحة. ومن ثم تتالت معارضه في كل من فرنسا وإنجلترا ولبنان، منها في عام 1993 في المركز الثقافي الفرنسي في بيروت وعام 1999 في مبنى اليونيسكو وعام 2002 في مبنى الـ«دوم» في وسط العاصمة اللبنانية، بيروت.