تل بحارية في ريف دمشق.. موقع تاريخي واعد مع كثير من المكتشفات الأثرية

يزيد عمره على 8 آلاف عام ويحتوي على دمى تمثل الربة الأم وأختام بطبعات هندسية وقلادات نادرة

تل بحارية في ريف دمشق موقع تاريخي مليء بالآثار («الشرق الأوسط»)
TT

قبل نحو خمس سنوات كان لمديرية الآثار السورية قرار سليم وضروري بتكليف بعثة تنقيب أثرية وطنية في منطقة تل بحارية والتي تبعد نحو 45 كيلومترا عن العاصمة دمشق في غوطتها الشرقية. واختيار المديرية للموقع المذكور كان موفقا خاصة مع قلة البعثات الأثرية العاملة في ريف دمشق حيث وعلى مدى السنوات الماضية ومواسم التنقيب التي تجاوز عددها الثلاثة عشر موسما أثبت هذا الموقع بأنه خزان من الأوابد واللقى الأثرية التي تعود لآلاف السنين الماضية والتي تمكنت البعثة من كشف العشرات منها، وهي عبارة عن لقى نادرة وهامة وذات مدلولات بحثية وتاريخية قيّمة.

مديرة البعثة التنقيبية الوطنية العاملة في تل بحارية غادة سليمان، التي كان لها محاضرة عن هذا الموقع ومكتشفاته قبل فترة في مؤتمر برشلونة للشباب لدول حوض البحر المتوسط في إسبانيا، أوضحت أهمية الموقع وآخر المكتشفات الأثرية فيها.

وقالت غادة سليمان إن تل البحارية يقع في منطقة سهلية تحيط بها الأراضي الزراعية، في قرية تحمل نفس الاسم على أرض منبسطة شمال مجرى نهر بردى. شكل التل متموج ويبلغ ارتفاعه نحو خمسة أمتار، وتبلغ مساحته نحو 250م باتجاه شمال - جنوب، ونحو 350م باتجاه غرب - شرق، ويرتفع التل عن سطح البحر 617.7م.

ولكن ما هي أنواع المكتشفات واللقى في تل بحارية وأهميتها وندرتها؟ توضح غادة: لقد قدم تل البحارية شواهد متعددة من النماذج من الناحية المعمارية والفنية، وهذه النماذج تبدأ من الألف السادس ق.م وتنتهي في نهاية الألف الرابع ق.م. وأهم هذه الشواهد: العمارة الضخمة مثل الجدران التحصينية التي تم الكشف عنها والتي يعود تاريخها إلى 4500 ق.م والبيوت الدائرية المعروفة بنموذج تولوي والتي يعود تاريخها إلى الألف السادس ق.م والزراعة ولا سيما القمح والزيتون وبعض الأشجار المثمرة وكذلك الحيوانات مثل الخنزير البري والبقر والغنم والماعز. كما أن المنطقة، تضيف غادة سليمان، كانت تنتج الفخار وفق معطيات معاصرة وفنية وتقنية عالية حيث تم العثور على الفخار الأسود المصقول والذي يعرف بفخار العمق.

وجود الأوبسديان، تقول سليمان، في غوطة دمشق وهو دليل على التبادل التجاري ما بين المنطقتين الشمالية والجنوبية، إذ تم العثور على قلادة من الأوبسديان الأبيض الشفاف وبعض الأدوات المصنوعة من الأوبسديان الأسود اللماع وعلى دمى تمثل الربة الأم، والتي تمت صناعتها بتقنية عالية، «حيث نجد أن الدمية وقد ارتدت ثوبا عليه بعض الزخارف المنفذة بتقنية جيدة». كما عثر على دمى ذات رأس متطاول وتبدو وكأنها تضع قبعة على الرأس والعيون مثل حب القهوة والأنف بارز. أما الأختام التي عثر عليها فتحمل طبعات هندسية، مثل الأدوات الصوانية الموجودة على جماجم الهياكل العظمية والتي تشير إلى أهمية الشخص المتوفى ومكانته الاجتماعية، وهذا أحد الطقوس التي تعود إلى ما قبل الألف السادس ق.م.

لقد أسفرت نتائج التنقيب، تتابع سليمان، التي أجريت في الموقع على وجود ثلاث سويات أثرية متتالية تاريخيا، فصلت الطبقات عن بعضها بواسطة الرماد والردميات ولا سيما في مرحلة الاستيطان الأخيرة التي تمت في مطلع الألف الرابع قبل الميلاد. هذه المرحلة تمثل السوية الثالثة في التل، بعدان أُقيمت على أنقاض المرحلة السابقة مع وجود فاصل زمني قصير هُجر فيه الموقع، نتيجة حريق هائل تعرض له في الألف الخامس قبل الميلاد، والتي تمثل السوية الثانية في الموقع، وهذه تدل على أن الجماعات البشرية استوطنت الموقع وأقامت فيه اعتبارا من الألف السادس ق.م، فقد بنوا بيوتهم من اللبن المقولب وبنماذج وأبعاد مختلفة، وكذلك نجد أن الأساسات بنيت أيضا من اللبن المقولب، أما الأسقف فكانت من الخشب المدعم بالطين. وفي المرحلة التي يعود تاريخها إلى النصف الأول من الألف السادس ق.م، عثرنا أيضا على مجموعة من الكسر الفخارية. هذه الكسر بعضها يحمل زخارف غائرة، عبارة عن خطوط متوازية صغيرة منفذة بشكل تدريجي ومائل، حيث تبدأ من الشفة وتمتد حتى عنق الآنية، والقسم الآخر فهو الفخار الأحمر والأسود المصقول، بالإضافة إلى مجموعة ثانية من الكسر الفخارية متعددة الألوان والنماذج لها أشكال متنوعة (شفة - قواعد).

أما الألوان فهي الأحمر المطلي والأسود المصقول وعليه زخارف مختلفة النماذج غائرة متدرجة على شكل خطوط بشكل مائل من الأعلى إلى الأسفل. أما الكسر التي لونها بني فهي خشنة والعجينة تكثر فيها الأملاح. والمجموعة الثالثة فهي من الفخار الأسود الخشن والعجينة لونها رمادي وفيها قليل من الشوائب وسماكتها نحو نصف سنتمتر.

وهناك الفخار الأسود المصنع بالدولاب والسطح الداخلي ولونه رمادي والقلب لونه رمادي أيضا ويوجد في العجينة قليل من الشوائب والسماكة أقل من نصف سنتمتر. والمجموعة الرابعة فنجد اللون الخارجي بيج مطليا والعجينة لونها برتقاليا وفيها شوائب وكلس، أما السطح الداخلي فلونه برتقالي أيضا وهو خشن، وإحدى الكسر عبارة عن رقبة كوب مطلية بلون البيج، وبعد الطلي زينت بشريط أحمر أقل من نصف سنتيمتر، بالإضافة إلى الفخار الأحمر المطلي والفخار الأسود المصقول واللماع. وتم العثور على بعض الكسر الفخارية بدائية الصنع، بالإضافة إلى مجموعة من الكسر الفخارية متعددة الألوان والنماذج منها البرتقالي الخشن الوجه الداخلي والخارجي بالإضافة إلى اللون الأسود المصقول قليلا واللون الأحمر المطلي المصقول على بعضها عرى تزيينية ملصقة وشفاه رقيقة أقل من نصف سنتيمتر.

وأخيرا، تقول غادة، إن الدراسات الأولية للمخلفات الأثرية سواء (المعمارية، الفخارية، الصوانية، وغيرها من اللقى الأثرية) تعطينا معلومات عن التطور الفني للإنسان القديم لا سيما من الناحية المعمارية حيث نجد عدة نماذج لبناء بيوت السكن في الموقع وهذا ما لا نجده في مواقع محافظة ريف دمشق.