«نساء الديكتاتور».. كتاب الموسم في باريس

إلينا تشاوشيسكو أرادت مصادرة يخت الملك حسين.. وزوجة بوكاسا تلقت نقودا من حبيبها جيسكار ديستان

الإمبراطورة كاثرين بوكاسا في منصة الشرف
TT

صدر في باريس، مؤخرا، كتاب بعنوان «نساء الديكتاتور». ومؤلفة الكتاب الصادر عن منشورات «بيران» هي الصحافية والمؤرخة ديان دوكريه، وفيه تستعرض الأقدار والمصادفات التي وضعت نساء من عامة الشعب في طريق عدد من الزعماء المستبدين، أمثال ستالين وهتلر وماو وسالازار وبوكاسا وتشاوشيسكو، فرفعتهن إلى مراتب السلطة والنفوذ والثراء بل والحكم، أحيانا، من وراء الستار.

وحال صدوره، تصدر الكتاب قوائم أعلى المبيعات. وراحت الصحف وبرامج التلفزيون تتسابق على استضافة مؤلفته، ثم جاءت أنباء تنحي الرئيس المصري وما تبعها من تقارير عن سيطرة عائلته على مرافق الاقتصاد في البلد، لتزيد من رواج الكتاب، رغم أنه لا يتطرق إلى أي من زوجات الحكام العرب.

وتكاد معظم القصص تتشابه في وصف الحب الأعمى الذي يسلب زوجة الديكتاتور، أو عشيقته، القدرة على رؤية عيوبه واستبداده وجرائمه. وهي في أغلب الأحيان ليست مجرد شريكة في السراء والمنافع واقتناء البيوت والفراء والمجوهرات وتقريب المنافقين وإرسال المغضوب عليهم إلى ما وراء الشمس، بل هي شريكة في الضراء أيضا، تلقى حتفها معه أو قبله بدقائق، كما حدث مع كلارا بيتاتشي، عشيقة الزعيم الإيطالي الفاشي موسوليني التي علقها خصومه، بعد إعدامهما، من ساقيها. وحسب المؤلفة، فإن آخر ما همست به كلارا لموسوليني هو «هل أنت سعيد لأنني لحقت بك حتى النهاية؟».. ولم تسمع جوابه لأن طلقات فرقة الإعدام كانت أسرع.

معه حتى النهاية، كان مصير إيفا براون، عشيقة الزعيم الألماني هتلر الذي أخذ معه، إلى الموت، سيدة ثانية تولهت به هي ماغدا غوبلز، زوجة وزير دعايته الشهير التي حقنت أطفالها الستة بالمنوم قبل أن تدس في فم كل منهم جرعة من سم السيانور. كان حبيبها هتلر قد أنهى حياته في اليوم السابق بعد أن قلدها وسام الحزب الذهبي، في آخر اعتراف منه بتضحياتها. وكان ذلك التكريم، بالنسبة لها، بمثابة التتويج لحياتها الماضية كلها والإشارة إلى الانتقال لحياة ثانية. ولما جاء دورها في الخضوع لنهاية اللعبة، ذهبت إلى مكتب زوجها جوزيف غوبلز، ووقفا متقابلين، تاركة له أن يقتلها برصاصة في القلب قبل أن يدير مسدسه نحو رأسه. وتركت ماغدا وراءها مذكرات جاء فيها «أحب زوجي أيضا، لكن حبي لهتلر أقوى، وفي سبيله أنا مستعدة لبذل حياتي. لقد أدركت أنه بخلاف جيلي، ابنة شقيقته، فإنه لا يستطيع أن يحب امرأة، وأن أمانيا كانت حبه الأوحد. لهذا وافقت على الزواج من الدكتور غوبلز لكي أبقى قريبة من الفوهرر».

نهاية إلينا، زوجة ديكتاتور رومانيا السابق لم تكن بأفضل. لقد اقترنت به أواخر عام 1947 بعد أن زورت تاريخ ميلادها في عقد الزواج وطرحت من عمرها أربع سنوات، لتصبح أصغر من زوجها في حين أنها تكبره، في الحقيقة، بسنتين. كما تخلت عن اسمها السابق «لونيتا» الذي يعني «جميلة» لأنه اسم شعبي لا يليق بطموحات زوجة القائد. وفي ما بعد، لم يعد اسم إلينا تشاوشيسكو يلفظ إلا مسبوقا بعدة ألقاب مثل «الدكتورة» و«العالمة» و«أُم الشعب»، بحيث إن الصحافة المنافقة، أو المرتعدة، رسمت حول رأس الرفيقة إلينا هالة القداسة. لقد تصورت أن ألقابها الأكاديمية كفيلة بأن تقطع دابر الإشاعات التي لاحقتها عندما كان اسمها «لونيتا» واتهمتها بأنها كانت بائعة هوى، لا أكثر. هكذا، بقدرة قادر، بدأت في الظهور منذ أواخر الستينات باعتبارها رئيسة قسم الكيمياء في المجلس السوفياتي الأعلى للاقتصاد والتنمية في رومانيا. وكان كل منصب يجر وراءه منصبا: فهي عضو في اللجنة البلدية للعاصمة بوخارست التابعة للحزب الشيوعي، ثم رئيسة للجنة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا، وهي لجنة اخترعها زوجها من أجلها. وبهذا، صارت لإلينا اليد الطولى في كل خطط البحث العلمي والتنموي، وصار ظلها يهيمن على كل المعاهد ومراكز الأبحاث في رومانيا. فهي التي تختار المدرسين والباحثين، وهي التي توزع المنح الدراسية. ولم تكن تعرف أنها تعرض نفسها للسخرية ولعداوة العلماء الحقيقيين. فقد كان المكلفون بكتابة خطاباتها يتعمدون أن يدسوا فيها مصطلحات وهمية، لمجرد الإيقاع بها وكشف جهلها عندما تتفوه بعبارات لا معنى لها. لكن الويل لمن يضبط وهو يسخر منها. فكم من وزير اختفى من المشهد لأنه لم يقدم لها الفروض الكافية للطاعة، وكم من سفير فقد منصبه ولفقت له تهمة كيدية لمجرد غيرة «أُم الشعب» من زوجته الجميلة. أما هي فقد صدقت الكذبة التي ابتدعتها بنفسها وتقدمت بأطروحة دكتوراه في موضوع كيميائي شديد التعقيد. وتسابق علماء البلد لحضور جلسة المناقشة في الجامعة لكي يروا، بأُم أعينهم، الرفيقة إلينا وهي تدافع عن نظرياتها الوهمية. لكنها لم تفسح لهم مجال الشماتة بها، لأنهم عندما قصدوا الجامعة في الموعد المحدد وجدوا على باب القاعة ورقة تشير إلى أن مناقشة الأُطروحة جرت في اليوم السابق.

حلمت إلينا بأن ينال زوجها جائزة نوبل للسلام، ودفعته إلى رعاية التقارب بين الفلسطينيين والإسرائيليين تحقيقا لهذا الهدف، وكذلك شجعته على المضي في مبادرات للحد من التسلح النووي. كما سعت للحصول على الجائزة لنفسها من خلال مشاريع عالية الكلفة للأبحاث الطبية تقوم على معالجة السرطان بخلاصة الثوم. لكن لجنة الجائزة لم تجدها، ولا زوجها، جديرين بها.

صعدت زوجة الديكتاتور الروماني إلى مراتب الثراء على مراحل، بالتناسب مع الإمكانيات المتواضعة لبلد يقع في المعسكر الشيوعي. ففي عام 1975 صعدت سيدة رومانيا الأولى، لأول مرة في حياتها، على متن يخت أنيق مجهز بكل ما يلزم. وكان ذلك في خليج العقبة، حين حلت مع زوجها ضيفين على العاهل الأُردني الراحل الملك حسين. وبعد العشاء، وبينما كانت تتمشى مع تشاوشيسكو على رمال الشاطئ، بدأت تنق عليه «أُريد يختا.. ولن أُغادر من دونه». ويبدو أن الفكرة راقت للزعيم الروماني الذي كان عاجزا عن مخالفة أوامر زوجته. لماذا لا يكون له يخته الخاص الراسي في موانئ البحر الأسود؟ وكيف تكون رومانيا دولة شيوعية كبرى إذا كانت عاجزة عن تلبية أُمنية مثل هذه لقائدها؟ وفي الصباح التالي كان على مترجم الزعيم الضيف أن يقوم بمهمة محرجة تتمثل في إقناع ملك الأُردن بإهداء يخته إلى ضيفيه. وكان رد الملك أن اليخت هو هدية كان قد قدمها، شخصيا، إلى كريمته الأميرة عالية. وحسب مؤلفة الكتاب، فإن الأمر كاد ينتهي بقطيعة دبلوماسية بين البلدين لولا التوصل إلى حل وسط: أن يوصي الملك باستقدام يخت من الولايات المتحدة الأميركية لضيفه القائد الشيوعي، وأن يسمى «الصداقة». وفي العام التالي، وصل إلى اسطنبول تحت حراسة مشددة يخت مشابه ليخت الأميرة عالية، رسا في القاعدة السرية في مانغاليا. أما اليوم فهناك شركة سياحية رومانية تقترح على زبائنها القيام برحلات على خطى السفاح دراكولا، تتضمن قضاء ليلة على متن «يخت القائد».

راحت طلبات السيدة الأُولى تتواتر وتتفاقم ولم يعد يردعها شيء بحيث إنها صرحت، ذات يوم، بأن رومانيا صارت بفضلها أشهر من برج إيفل، وأنها أهم من ملكة بريطانيا. لقد تذوقت لذة المنازل الفخمة والبضائع الراقية، وشيدت لنفسها قصرا ذا قبة مذهبة، وتملكها هوس النظافة بحيث كانت تطلب تعقيم كل ما تلمسه يداها، وزودت منازلها العديدة بالكثير من صالات الاغتسال. وعندما كانت تسافر مع زوجها في رحلاته الخارجية، فإن المضيفين كانوا يفعلون ما في وسعهم لإرضاء نهمها. وكانت طلباتها لا تنتهي: لا بد من تجديد محتويات خزانة ثيابها، ولا بد من شراء سيارة سباق جديدة للأولاد. ولم تكن إلينا تخجل من أن تطلب ذلك من مسؤولي البروتوكول مباشرة، في فرنسا أو في ألمانيا، فقد كانت قد أقرت الالتزام بقاعدة مفادها ألا تلبس إلا الثياب الفرنسية، وألا تركب إلا السيارات الألمانية. ويذكر الجنرال إيان باسيبا، المستشار الخاص للزعيم والمسؤول عن الأمن، أنه سمعها تقول لزوجها «هل رأيت كيف أنك بمجرد أن تلفظت بكلمة سيارة، عرضا، أمام الألمان، انهالت علينا السيارات؟».

وهي كانت بدورها توزع الهدايا على المقربين منها، لأهداف في نفسها، فقد منحت الوزير جورج بانا، وهو مناضل ريفي ارتكب هفوة لم ترق لها، منزلا في أرقى ضواحي بوخارست، غير أن الحجرات كلها كانت مزروعة، مسبقا، بأجهزة التنصت. ولم تكن تلك عادة غريبة من امرأة تجسست على زوجها نفسه وضربت حوله ستارا يبعد عنه كل الشابات الجميلات. وبلغ بها الأمر أن تجسست على ابنتها زويا، عندما بلغت سن الشباب. ولما أخبرها جواسيسها بأن البنت تحب صحافيا شابا يعمل في مجلة «لومينا» المتخصصة في السياسات العالمية، وبعد أن أجرت تحرياتها عنه أبعدته عن ابنتها لأنه من أصل متواضع ووالداه لا يحملان شهادات مرموقة.

ولم تقتصر اهتمامات الزعيمة على مواطنيها، بل تعدتهم إلى الشأن العالمي. ويذكر مسؤول أمني سابق أنها طلبت إعداد ملفات عن شخصيات مثل رئيسة وزراء الهند أنديرا غاندي، ورئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير، على أمل أن تتمكن من منافستهما. كما أنها كانت تحمل عدوانية خاصة ضد زوجة الرئيس الأميركي جيمي كارتر، بسبب حكاية تتعلق بمعطف من الفرو. فقد كان كارتر متشددا في بعض القضايا المبدئية. وهو رفض أن تمنح جامعة واشنطن الدكتوراه الفخرية إلى العالمة الرومانية الكبيرة إلينا تشاوشيسكو. وردت «الرفيقة» على الرفض بتصريح ساخر من كارتر، صاحب مزارع الفول السوداني السابق، بأن أطلقت عليه تسمية «مستر بينت». وكان من نتيجة ذلك أن دخلت العلاقات بين البلدين في فترة من الجمود. ثم عادت إلينا وركزت هجومها على زوجة كارتر، فقد كانت قد طلبت منها، كعادتها في إحدى الزيارات، عددا من معاطف «الفيزون»، لكنها تلقت بدلا منها، على سبيل الهدية، كتاب الرئيس الأميركي المعنون «لماذا ليس الأفضل؟»، ومجلدا لصور رومانيا كما التقطتها الأقمار الصناعية الأميركية. ولم تتورع إلينا عن التشنيع بروزالين كارتر، قائلة إنها لا تفقه ما هو «الفيزون»، ولم تكن تتوقع منها هدية سوى سلة من الفول السوداني.

كل تلك السطوة انتهت برصاصات قضت على إلينا ونيكولاي تشاوشيسكو، بعد انقلاب الشعب الروماني على حكمه في العشر الأواخر من ديسمبر (كانون الأول) 1989. لقد دخلا يدا بيد إلى غرفة تمت فيها محاكمتهما بشكل وجيز أمام «أولاد عاقين». وكانت «أُم الشعب» تخفف عن زوجها بالقول «إنهم لا يستحقونك».

ليست كل زوجة لديكتاتور مستعدة للمضي معه حتى الموت. لقد طارت كاثرين بوكاسا، الزوجة الرسمية من بين عشرات المحظيات، إلى باريس لتحل في ضيافة الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان، بينما كان زوجها، حاكم جمهورية أفريقيا الوسطى، يتلقى خبر الانقلاب عليه وهو يحل ضيفا على العقيد الليبي معمر القذافي، عام 1979.

هل كانت هناك مغامرة عاطفية بين مدام بوكاسا ومسيو جيسكار؟ الكتاب يلمح إلى ذلك، وينقل عن أندريه لومينيان، أحد مستشاري زوجها، أن كاثرين كانت تتعمد إثارة غيرة بوكاسا بالقول إنها رضخت لغواية الرئيس الفرنسي الذي طاردها بالهدايا والنقود. هل كانت تنقصها النقود بعد فضيحة أحجار الماس التي قدمها زوجها إلى الرئيس الفرنسي وزوجته؟ وتنقل المؤلفة عن عمر، سائق العائلة، قوله إن كاثرين أقسمت أمامه بأنه لا شيء بينها وبين جيسكار، لكن بوكاسا كان دائم الشكوى، وهو في منفاه في ساحل العاج، من وجود كاثرين في باريس، حيث تعيش مع جيسكار، الرجل الذي كان مجرد ذكر اسمه يخرج سيده من طوره. لقد هربت زوجة الإمبراطور بوكاسا الأول، محملة بحقائب من العملة الورقية والمجوهرات، وفوقها صولجان الإمبراطورية والتاجان المرصعان بأكوام من الأحجار الكريمة. واستقدمت لتفكيكها خبيرا يعمل لدى الصائغ الشهير «آرتوس بيرتران»، وباعتها بالمفرد، مثلما باعت الأثاث الثمين الذي كان موزعا في عدة قصور اشتراها زوجها في فرنسا. ولا عزاء للسيدات خارج قصور الحكم.