العرض الأخير للمصمم غاليانو.. يقطر شاعرية و«داندية»

«ديور» تكشف الستار عن جنودها المجهولين لتفصل نفسها عن مصممها المغضوب عليه

رسالة «ديور» مع خروج فريق العمل الذي أشرف على إنجاز هذه التشكيلة بملابس العمل البيضاء كانت واضحة، تقول فيها إن الدار لا ترتبط باسم شخص واحد، وإن وراء هذه الإبداعات فريقا كاملا، وليس غاليانو (رويترز)
TT

يخرج المرء من عرض «ديور»، أمس، وبقلبه غصة. فهذا هو العرض الأخير للمصمم جون غاليانو، الذي كان حتى الأمس القريب، أحد أهم المصممين، الذين أطلوا علينا خلال العشرين سنة الأخيرة.

لم يكن هناك مصمم آخر يضاهيه قدرة على الإبداع ضمن إرث دار عريقة، سوى كارل لاغرفيلد، مصمم دار «شانيل» المخضرم. أما من حيث الدرامية، سواء في التصاميم أو الإخراج، فلا أحد تفوق عليه حتى الآن، لهذا كان من الطبيعي أن يفتقد عالم الموضة عموما، وباريس خصوصا، يوم أمس، جنونه وشطحاته المسرحية، وكان غيابه ملموسا في القاعة الضخمة في متحف «لو رودان». ولا شك أنه حتى من يشعر بالغضب تجاهه بسبب ما تفوه به من كلمات نابية ضد السامية وغير لائقة، افتقد طلته المسرحية في آخر العرض، التي كانت تسبقها دقائق صمت من الترقب، قبل خروجه إلى المنصة نافشا ريشه مثل الطاووس، ليفاجئنا بمظهر جديد يتقمص فيه شخصية ما بشكل كاريكاتوري، يجعل الكل يشعر بأنه لم يحضر عرض أزياء فحسب، بل حضر عرضا دراميا متكاملا.

لهذا بعد 14 عاما من هذا الطقس، كان من الصعب مبارحة الحضور مقاعدهم مباشرة، كما هي العادة بالنسبة لأي عرض أزياء، وجلسوا منتظرين، والأعين مصوبة إلى المدخل الذي تطل منه العارضات، وكأنه سيطل عليهم ليقول إن كل شيء كان مجرد حلم ليلة صيف. لكن بدلا من غاليانو، خرج فريق العمل، المكون من الأنامل الناعمة وكل من أشرف على إنجاز هذه التشكيلة، بملابس العمل البيضاء، وكأنهم يعملون في مختبر طبي وليس في معمل أزياء.

رسالة «ديور» كانت واضحة، تقول فيها إن الدار لا ترتبط باسم شخص واحد، وإن وراء هذه الإبداعات فريقا كاملا، لا يجب أن يدفع ثمن غلطة شخص واحد، مهما كانت عبقريته.

وتجاوب الحضور مع هذه الرسالة بتصفيق حار لعدة دقائق، مما سيطمئن «ديور» بلا شك على أن مكانتها لن تهتز، وما وضح هذه الرسالة أكثر أن الرئيس التنفيذي لدار «ديور»، سيدني توليدانو، أطل قبل بدء العرض على الحضور ليلقي كلمة، شرح فيها مبادئ الدار، مؤكدا أنها قامت منذ تأسيسها في عام 1947 على فكرة تقديم السعادة والجمال والحلم للمرأة، ولا شيء غير ذلك، وأنها ستستمر على هذه المبادئ، مضيفا أن ما تمر به الدار حاليا ستتجاوزه بفضل تاريخها وإخلاصها للمرأة ومفهوم السعادة، وليس العنصرية البغيضة.

أما الغصة التي شعر بها الحضور، فتعود إلى أن العرض كان يحمل كل بصمات غاليانو الخلاقة، التي جعلت من دار «ديور» أحد أهم الأسماء العالمية، منذ أن التحق بها في عام 1996، من جهة. ومن جهة ثانية، لأن نهايته لم تكن تليق بتاريخه الطويل؛ فإذا كانت «ديور» لن تتأثر وستجد من يخلفه بسرعة، خصوصا أن أي مصمم يحلم بهذا المنصب، فإن غاليانو سيحتاج إلى وقت طويل، وحظ كثير لكي يغفر له الناس كبوته، لكن الأهم، أن عليه أن يتصالح مع نفسه. لأن وجوده في مقهى «لابيرل» بمنطقة «لوماريه» حيث يسكن، وحيدا وثملا، يشير إلى عزلة نفسية يعيشها منذ بضع سنوات، ويقول المقربون منه إنه حان الوقت لكي يخرج منها ويتفاعل مع الواقع بشكل واقعي.

تشكيلته لخريف وشتاء 2011 كانت توليفة مشكلة من الـ«داندية» الإنجليزية، والرومانسية الشاعرية، من خلال ألوان أكد منذ عرضه الأخير للـ«هوت كوتير» في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي أنه بات يتقنها كما لو أنه رسام من حقبة النهضة، إلى جانب أقمشة مثل المخمل والحرير والفرو والجلود.

المجموعة الأولى كانت الأكثر درامية وإبهارا، حيث ظهر فيها «كاب» على شكل معطف طويل بقلنسوة وجيوب، مع بنطلون فضفاض من المخمل، ربط عند الركبة بشريط من الساتان، فضلا عن جاكيت من الجلد قصير، ليبدأ اللعب على الطبقات، قبل أن ينتقل إلى التخفيف من الوزن والسماكة والقطع. فالمجموعة الثانية كانت عبارة عن فساتين بشتى الأشكال والأحجام، كما أن السميك تماوج مع الشفاف والدانتيل في ملابس المساء، والأنثوي مع الذكوري، خصوصا في فستان من الدانتيل أسود مع جاكيت «توكسيدو» طويل نوعا ما. المجموعة الأخيرة لم تكن جديدة، فقد ظهرت هذه الازدواجية بين الشفاف والسميك في عروضه من قبل، لكنها هذه المرة اكتسبت بعدا شاعريا، يحتفل بالأنوثة أكثر من الرغبة في إحداث الصدمة. وإذا كانت النجمة ناتالي بورتمان قد استنكرت ما قاله المصمم، وأشهرت أنها لن ترتدي أزياءه، فهناك كثيرات غيرها لن يمانعن في الظهور بها، لأنها، كما قال السيد سيدني توليدانو، ليست عن ثقافة معينة أو هوية بعينها، بل فقط تلخص مفهوم الجمال والحلم والسعادة.

غاليانو في سطور

* جنوح غاليانو إلى إحداث الصدمة لم يمثل أي مشكلة بالنسبة لـ«ديور» في البداية، لا سيما أنها، بالإضافة إلى الإخراج المسرحي الفانتازي، أثارت الكثير من الانتباه إلى الماركة وزادت من نجاحها. فعندما قدم تشكيلته المثيرة في عام 2000، التي أثارت عليه حنق الكثير من الجمعيات ممن رأوا أنها تمس بالمتسولين ومن ليس لهم مأوى، لم يؤثر الأمر على مكانته في الدار، على الرغم من احتجاجهم خارج دار «ديور». فقد انتهى الأمر باعتذار جون غاليانو وتدخل رجال الشرطة لفض الاحتجاج، وتم اعتبار المسألة دعاية أكدت مكانة المصمم كمبدع بخيال خصب لا أقل ولا أكثر. لكن الأمر يختلف في هذه الحالة، فالكلمات التي تفوه بها كانت ضد السامية، وهو أمر لا يغتفر، في عيون الكثير من المؤثرين، ويعني هنا أن «ديور» كانت لا بد أن تضحي به لتحافظ على اسمها في السوق.

غاليانو ودار أزياء ديور

* كان غاليانو أول مصمم بريطاني يتسلم مقاليد دار أزياء فرنسية عريقة، مما جعله قدوة لأبناء جيله من البريطانيين، وعلى رأسهم الراحل ألكسندر ماكوين، الذي يلتقي معه في الكثير من النقاط. فالاثنان ينحدران من طبقة متواضعة جدا، ويميلان إلى عنصر الاستعراض المسرحي والتلذذ بإحداث الصدمة من خلال عروضهما. صحيح أن «ديور» روضت هذا الجموح في السنوات الأخيرة، وتحديدا بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، لكنه لم يختف تماما. ومع ذلك فإن غاليانو، على الرغم من شطحاته السريالية وفانتازياته، فهم دوره، وظل مخلصا لتقاليد الدار وأسلوب مؤسسها، كريستيان ديور، بدليل أن التشابه بين القديم والجديد لافت بشكل غريب، سواء كانت صور الفساتين بالأبيض والأسود أو بالألوان، على جسم أميرة موناكو، الراحلة غريس كيلي، أو على جسم تشارليز ثيرون، وربما هذا ما انتبه له برنارد أرنو، رئيس مجموعة «إل في أم آش»، حين سلمه منصب مصمم فني في دار «جيفنشي» أول مرة، ثم في «ديور» بعد عامين فقط. وبسرعة نجح في ضخها بروح الشباب ليستقطب لها شرائح أكبر. مما يجعل تصديق ما تفوه به صعبا وغير مفهوم بالنسبة لمن يعرفونه عن قرب. إنه هو نفسه عانى في طفولته من التمييز بسبب اختلافه. فهو ينحدر من أصول متواضعة جدا، لأب سباك وأم إسبانية، الأمر الذي كان يعتبر منذ ثلاثين عاما شيئا غريبا في جنوب لندن، التي انتقل إليها من جبل طارق وهو في السادسة من عمره.

لم يكن التأقلم مع محيطه الجديد سهلا بالنسبة له، خصوصا أنه كان يتمتع بملامح غريبة بالنسبة لأقرانه، واستغرقه الأمر عدة سنوات قبل أن يتأقلم مع الوضع، ويجد نفسه في «سانت مارتن»، التي منحته متنفسا يعبر من خلاله عن شخصيته وموهبته. أما السؤال المطروح حاليا فهو من سيخلفه؟ هل ألبير ألبيز مصمم دار «لانفان»؟ أم ريكاردو تيشي، مصمم دار «جيفنشي»؟ أم مَن؟ اللائحة طويلة. لكن على ما يبدو فإن غاليانو ليس هو الموضوع الوحيد وراء الكواليس، فهناك شائعات قوية تقول إن الإيطالي ستيفانو بيلاتي سيغادر دار «إيف سان لوران»، وإن أسماء مثل هادي سليمان، راف سيمونز وأوليفيه ثيسكينز، مرشحة لتحل محله.

المصادر الرسمية تنفي بشدة، لكن ما يبدأ كشائعة في عالم الموضة يكون نابعا من حقائق في أغلب الأحيان، فرغم أن ستيفانو بيلاتي سيقدم عرضه يوم الاثنين المقبل، فإن وضعه سيكون حساسا، لأن كل العيون ستكون مسلطة عليه، والأقلام مستعدة للانتقاد.