ربيع مروة يكسر بمهارة المسافات الوهمية بين الفنون

«كيف بدي وقّف تدخين؟».. ذريعة جميلة لسخرية تستبيح الحدود

من تجارب مروة السابقة وعنوانها «لكم تمنت نانسي أن يكون كل ما حدث ليس إلا كذبة نيسان»
TT

للمرة الثانية، وبعد خمس سنوات من تقديمه للمرة الأولى، أعاد ربيع مروة عمله التجريبي البديع «كيف بدي وقّف تدخين؟»، ليجد الترحيب الحار نفسه الذي يلاقيه به جمهور بات ينتظره ويتابعه من عمل إلى آخر. فهو صاحب تجارب ذكية وجريئة، بدأها منذ عام 2003 متمردا على العروض المسرحية التقليدية، مبتكرا في كل مرة أشكالا جمالية جديدة يعبر من خلالها عن فكرة أو مجموعة أفكار يريد إيصالها إلى جمهوره على طريقته الخاصة.

«كيف بدي وقّف تدخين؟»، العمل الذي قدمه مروة الأسبوع الماضي، على خشبة «مسرح بيروت»، وصفه بأنه «محاضرة غير أكاديمية»، لكنه في الحقيقة ليس كذلك وإن أخذ شكلا يوحي بأن مروة محاضر من نوع خاص. فمن مفاجآت العمل، مثلا، أن يعلن صاحبه عن تغيير اسمه بعد بدء العرض ليصبح «كيف بدي وقّف تمثيل؟».

يجتاز ربيع مروة الخشبة ويجلس إلى طاولة صغيرة أعدت له في زاوية المسرح مع كومبيوتر محمول وزجاجة ماء، ويبدأ يحدث الحاضرين بطريقته المضحكة الهازئة متعمدا عدم الضحك أو حتى الابتسام، وهو ينتقل من موضوع إلى آخر. يبدو أن الكلام يتشظى ولا علاقة بين القصص التي يرويها. العفوية التي يريد الفنان أن يخدعك بها تكتشف أنها مجرد قناع لعمل محكم التنظيم والترتيب والإعداد.

المهارة تتأتى من الربط غير المباشر بين المواضيع، وهي تترافق مع صور وأفلام يحركها على شاشة كبيرة بحجم خلفية المسرح.

يبدأ الكلام عن العناوين، وصعوبة اختيارها، حتى إن مروة يخبرنا بأنه حين يحضّر مسرحية فإن الشغل كله يكاد يكون في كفة، واسم المسرحية في كفة أخرى. وللتغلب على هذه المشكلة اتخذ لنفسه دفترا يسجل عليه عشرات العناوين التي تصلح لمسرحيات مقبلة قد ينجزها أو لا ينجزها، لكن ها هي العناوين حاضرة وتنتظر. تبدأ العناوين تمر على الشاشة واحدا بعد الآخر: «تحت العريشة سوا»، «ادخل يا سيدي ننتظرك في الخارج»، «الرجل المدمس»، «العمر قصير لكن النهار طويل جدا». قد لا تبدو العناوين مثيرة للضحك من دون تعليقات مروة عليها أو من دون أن تكون مقرونة بتقاسيم وجهه.

هي على أي حال ذريعة جيدة ليدخل من خلالها الفنان إلى موضوعه الأساس وهو الأرشيف، وعن حياته الجحيمية مع أرشيفه الكبير الذي يحوي صورا ووثائق، كما الأفلام وقصاصات المقالات، وأشياء كثيرة جمعها تصلح ذات يوم لأن تسعفه بفكرة، متسائلا عن الرغبة في التجميع والتكديس لمواد يحتاج لأكثر من عمره كي يعود إليها.. أهو خوف الفنان من نفاد الأفكار، أم تحايل على الموت؟

من أرشيفه ينبش لنا ربيع مروة صورا التقطها لأغطية المجارير في شوارع المدن التي زارها.. أمر يثير ضحك المتفرجين. يعرض أمامنا أغطية مستديرة، مربعة، مثلثة، بعضها ملون، كتب عليها بلغات مختلفة. كل بلد له طريقته في سد مجاريره. تبلغ السخرية مداها حين يخبرنا بأن هذا الجهد في التصوير بقي مجرد عبث لا طائل تحته، إذ اكتشف أن ثمة كتابا صدر يجمع صورا لكل تلك الأغطية التي تعب في مطاردتها بعدسته. محاولة أخرى للأرشفة ليست أقل طرافة حيث يرينا صورا لضوء الشارع الذي يقف على عمود طويل بعد أن قرر تصويره كل يوم وهو في طريقه إلى عمله، وبذلك باتت لذلك الضوء المعلق في الأعلى صور مأخوذة من كل الجوانب والاتجاهات، وهو ما يضحك المتفرجين وهم يكتشفون هذه المحاولات التي لا يعرف أحد إلى أي نتيجة يمكن أن تفضي.

يحاول مروة أن يجعلنا نطل على فكرة الأرشفة من زوايا مختلفة، لنفهم أهميته، وخطورته، وعبثيته في آن واحد، من خلال هذا العرض الذي يقرن الكلمات المختارة بعناية، والعبارات القصيرة خفيفة الظل، بعرض بصري ممتع لصور أو أفلام يعرف كيف يقدمها لمتفرجه في اللحظة الحاسمة وبالطريقة التي تجعلها الأكثر تأثيرا.

صحيح أن الجمهور ضحك كثيرا، لكن مروة لم يتمكن في النصف ساعة الأخير (عرض من نحو 50 دقيقة) من البقاء على الوتيرة نفسها من السخرية، خاصة حينما بدأ الكلام عن أرشيف الحرب اللبنانية الأهلية الذي يبدو أنه يملك منه الكثير. أرشيف المفقودين بعد الحرب، صورهم تتوالى مع أسمائهم، من مختلف المناطق والأديان. فيلم من أرشيفه أيضا يعود إلى معارك الجبل بين المسيحيين والدروز، يقول إنه أبشع من أن يتمكن من إطلاعنا عليه، لذلك يرينا جانبا مسالما للمقاتلين الذين يحملون سلاحهم بيد ويلوحون للكاميرا باليد الأخرى، ويعفي المتفرج من مشاهدة الجثث.

لم يسلم أحد ربما من نقد ربيع مروة، ومن قفشاته الساخرة صوتا وصورة، لا حزب الله ولا سعد الحريري ولا حتى سيغموند فرويد، وهو يتحدث عن الأرشيف، بدءا من سخريته من نفسه، ورغبته التي لا يفهمها في الأرشفة وتجميع المواد.

ما يقارب الساعة ينتقل خلالها ربيع مروة وهو يتحدث عن الأرشيف بطريقته السمعية - البصرية، من مأزق الأرشيف الشخصي، إلى مأساة عدم وجود أرشيف جماعي مفتوح بحرية وبدون تنقية وفلترة، لكل الأطراف التي تريد مراجعته. دليل دامغ على أن الديمقراطية في لبنان ليست بخير.

«الأرشيف» ذريعة أخرى من ذرائع ربيع مروة الجميلة ليسقط المسافات الوهمية بين الفنون، ويبتكر لنفسه مساحة فضفاضة ومفتوحة الأفق، يتحرك عليها في كل الاتجاهات، فهو فنان ويحق له أن يفعل ما يريد ليقول ما يشاء.