صوت تونس في باريس عبير النصراوي تقدم أسطوانتها الأولى

المطربة «المثقفة» ابنة القصرين تفارق الطرب الكلثومي لصالح تراث بلدها

عبير النصراوي شجرة جذورها في تونس وفروعها في العالم
TT

مع رياح التغيير التي هبت من تونس، صدرت في باريس للمغنية عبير النصراوي، ابنة مدينة القصرين الثائرة، أسطوانة رقمية هي الأولى في مسيرتها الفنية التي بدأت قبل سنوات وتميزت بالتأني وتحديد موقع القدم قبل أي خطوة إلى الأمام. واشتملت الأسطوانة التي أصدرها معهد العالم العربي وحملت عنوان «هايمة»، على 11 أغنية، منها ما هو مستوحى من التراث التونسي المطعم بنكهة الحنين.

يشكل الاستماع إلى الأغنيات مفاجأة مدهشة لمن كان قد تابع مسيرة عبير النصراوي، المغنية ذات الصوت القوي الذي ما زال يبحث عمن يفجر كامل طاقاته. فهي كانت واحدة من عشرات المغربيات والمصريات والتونسيات ذوات الأصوات الجميلة، من المولعات بأسمهان وأم كلثوم وعبد الوهاب وليلى مراد وصالح عبد الحي ومدرسة الطرب القديم التي يرضعها أبناء وبنات تلك البلاد مع الحليب، منذ الصغر. وفي مشاركاتها السابقة على مسرح معهد العالم العربي وفي الفضاءات الثقافية والفنية في باريس، كانت عبير تميل إلى ترديد روائع كوكب الشرق، معلنة عن نفسها كمطربة مثقفة، خصوصا أنها درست علم الاجتماع في فرنسا وتحمل إجازة في العلوم الموسيقية من جامعة تونس، وفوقها الماجستير في موسيقى الشعوب من جامعة السوربون في باريس.

ولعل تخوف عبير من الارتماء بشكل كامل في لجة الفن، وهي الجامعية المجتهدة، منعها حتى الآن من أن تتفرغ لموهبتها الغنائية. وهي قد عملت في عدد من الأعمال البسيطة للإنفاق على دراستها، منذ أن جاءت إلى العاصمة الفرنسية قبل عشر سنوات، إلى أن حصلت على موقعها كمعدة ومقدمة للبرامج الموسيقية في إذاعة «مونت كارلو - الدولية» مثل «العالم الموسيقي» و«نغم وذكرى»، وآخرها برنامج «حكاية أغنية». وهي منذ أن بدأت الغناء أمام الجمهور، منذ 1994، حرصت على أن تظهر في الإطار اللائق و«المثقف» الذي أشرنا إليه، أي مسرح مهرجان قرطاج في بلدها الأم، ومهرجان الموسيقى العربية (مع عازف العود العراقي نصير شمة) في القاهرة، وحفل تكريم الشاعرين أدونيس وعبد العزيز المقالح في باريس، أو حفلها الخليجي الأول الذي قدمته في البحرين، في «مركز الشيخ إبراهيم آل خليفة للثقافة»، أو مشاركاتها في تظاهرات «ربيع الشعراء» وملتقيات من هذا الوزن في دول أوروبية أخرى.

هل يكون هذا الألبوم الأول، والمتأخر، هو فاتحة تعرف الجمهور العربي العريض على صوت عبير النصراوي، بعد أن ظلت لسنوات عديدة صوت تونس في باريس؟ ربما لا يمكن لموعد أن يوصف بالمبكر أو بالمتأخر في مثل هذا النوع من ميادين الإبداع. لكن المؤكد هو أن التأني قد خدم عبيرا وهي تنزل إلى الساحة فاكهة ناضجة تغري بالسماع وتطرب الروح. وهي تروي كيف أن لقاءين، في حياتها، كانا حاسمين في خروج أسطوانتها إلى النور. أولهما لقاؤها بالمؤلف الموسيقي إسكندر قتاري، الفنان التونسي الشاب الذي سافر في البلدان وعاش فترة في الولايات المتحدة الأميركية وتشرب بالإيقاعات المتنوعة وأحب بحة النايات المتلاصقة في الموسيقى اللاتينية، وضربات القيثارات الأندلسية، إلى جانب صرخات اللوعة التي كان مغنو الجاز، ومغنياته، يعبرون بها عن أحزانهم واغترابهم. أما اللقاء الثاني فكان مع ليلى المكي، الشاعرة بالعامية التونسية وصاحبة مجموعة «جوابة الوجع». فقد وجدت عبير في قصائد ليلى ما يضع الحروف على مشاعرها الصامتة والمكبوتة، خصوصا أن الشاعرة كانت تعبر عن نفسها بلهجة أهالي القصرين، مسقط رأس المطربة واللغة المحلية التي كانت تسمع جدتها تتحدث بها.

ذات يوم، رفعت عبير سماعة الهاتف وتركت رسالة صوتية غير عادية لإسكندر قتاري، أدت فيها مقاطع من أغنية تراثية تونسية عنوانها «الغربة». وبعد أيام اتصل بها ليقدم لها تسجيلين مقترحين لإعادة توزيع الأغنية، الأول يرتكز على الموسيقى القديمة والثاني أكثر حداثة. وهي تقول إنها مالت نحو الأول، بشكل عفوي، واتفقا على تسجيل «الغربة» بصوتها. وتضيف أن استخدام كلمة «تسجيل» مجازي ولا تنطبق على ما يجري اليوم في استوديوهات متطورة للموسيقى، فقد كان العمل يجري، آنذاك، في مرأب للسيارات وبالإمكانات المتواضعة المتاحة لهما.

جاءت ألحان قتاري لكلمات ليلى المكي لتراعي حساسيات الأذن العربية، لكنها لم تخل من مغامرات موفقة في المزج بين آلات التخت الشرقي وبعض الآلات الغربية. وكان الهدف تقديم أغان تعبر عن الانتماء التونسي لصاحبتها وفي الوقت ذاته تنسجم وميول شابة تعيش وتعمل في باريس، وسط جالية عربية تعد بالملايين، وتتطلع لتقديم أعمال موسيقية حديثة تصل إلى الغربيين ولا يكون فيها الدف والطبلة مجرد ضجيج للتحريض على الرقص.

في سهرة بشقة باريسية، أتيح لي أن أستمع إلى عبير النصراوي وهي تأخذنا بصوتها إلى ربوع تونس الخضراء، البلد الذي فاجأ العالم بتوقه إلى الحرية. وكان صوتها من القوة بحيث إنني تخيلت كل جيران المبنى، في الطوابق العليا والدنيا، يصغون إلى طبقاته ويفهمون ما تريد أن توصله إليهم، حتى ولو جهلوا لغتها. إنها هي التي كتبت كلمات «هايمة»، الأغنية التي تحمل الأسطوانة اسمها: ليل بلا قمرة والسما غايمة الفرحة بعيدة وأفكاري هايمة