محركات نفاثة يقل قطرها 600 مرة عن شعرة الإنسان من تصميم الألمان

تفتح الباب لاستكشاف خفايا الجسم البشري وإيصال العقاقير لمواقع الإصابة

رسم توضيحي يظهر مركبة نانوية تشق طريقها داخل وريد (معهد دريسدن)
TT

أكد المشرفون على موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية النبأ الذي نشره العلماء الألمان من مدينة دريسدن الألمانية (شرق) عن إنتاج محركات نفاثة منمنمة يقل قطر الواحد منها 600 مرة عن قطر شعرة الإنسان. وتفتح مثل هذه المحركات، التي يمكن توجيهها من الخارج، المجال أمام اكتشاف خفايا جسم الإنسان، كما يمكن استخدامها مستقبلا لإيصال العقاقير الطبية إلى الموقع الذي يحتاجها بالضبط.

وكان العلماء الألمان من «معهد أبحاث المواد» كشفوا عن التوصل إلى أصغر محركات نفاثة من نوعها في تاريخ البشرية. ولا يزيد قطر المحرك الواحد عن 600 نانومتر «النانو يساوي جزء من مليون جزء من الملليميتر) ويقل وزن الواحد منها عن 1 بيكوغرام (أي واحد من مليار جزء من الغرام). وجاء في التقرير أن ما يهم العلماء ليس تسجيل الأرقام القياسية وإنما الاستخدامات العلمية التي تدفع البشرية إلى الأمام.

ويبدو طموح الباحثين مشابها لوقائع فيلم هوليوودي ظهر في الثمانينات من القرن الماضي يصور تصغير العلماء وإرسالهم في رحلة استكشافية في جسم الإنسان داخل مركبة نفاثة منمنمة. هذا يعني أن البشرية اقتربت خلال 30 سنة من تحقيق هذا الحلم، وإن كان بواسطة مركبة فضائية منمنمة غير مأهولة. وفي حين تستخدم المركبة الهوليوودية (في الفيلم المذكور) الوقود التقليدي في مواصلة رحلتها داخل جسم الإنسان، يتصور علماء دريسدن، مستقبلا، إمكانية جعل المحركات النفاثة تستفيد من كهربائية وكيمياء الأنسجة البشرية كي تزود نفسها بالوقود.

هذا يعني فتح آفاق التشخيص الطبي عن طريق إرسال المركبات الصغيرة إلى جسم الإنسان وتوجيهها إلى موقع الإصابة لمعرفة، مثلا، ما إذا كان تورم الأمعاء سرطانيا أم لا. كما يعني شحن المركبات الصغيرة، وما تحمله من أسطوانات إضافية، بالأدوية وإرسالها بالضبط، عن طريق الدم، إلى موقع الإصابة. وهي أفضل طريقة لتجنب الأعراض الجانبية للأدوية، لأن العقاقير التقليدية، التي تؤخذ عن طريق الفم أو العضلات أو الأوردة، لا تؤثر في النسيج المريض فحسب، وإنما في الأنسجة السليمة أيضا.

وذكر الباحث أوليفر ج. شميت، من «معهد دريسدن لدراسة المواد»، أن المحركات النفاثة، التي تعمل ذاتيا، تم إنتاجها كأنابيب دقيقة وقصيرة من مواد التيتان والحديد والبلاتين. ويبلغ طول الأنبوب 50 نانومترا وقطره 5 نانومترات. وتم تصنيع الطبقة الداخلية من الأنابيب من البلاتين وهذا يفيد في التفاعل مع الماء وبيروكسيد الهيدروجين في الدم. فهذه المادة تتفاعل في الأوردة والشرايين مع الماء وتنتج فقاعات صغيرة من الأكسجين، التي تخترق الأنابيب إلى الخارج وتعمل بمثابة «مناطيد» تزيد سرعة حركة المركبات في الدم.

حرص شميت وفريق عمله على أن تغطي طبقة من الحديد الأنابيب النانوية، وهو ما يسهل عليهم التحكم في الأنابيب من الخارج بواسطة مجال مغناطيسي. وتمكن العلماء في التجارب المختبرية من تحريك «مركبات النقل» داخل الجسم البشري. وهذا ليس كل شيء؛ لأنهم تمكنوا، باستخدام المجال المغناطيسي، والمتابعة على شاشات كبيرة، من أن يحملوا هذه الأنابيب بأقراص وأسطوانات منمنمة محملة بالأدوية. كما ثبت من خلال التجارب أيضا إمكانية شحن وتفريغ أسطوانات النقل من الخارج وفي أي موقع من جسم الإنسان باستخدام هذا المجال المغناطيسي.

والمعركة ضد الأمراض داخل جسم الإنسان في «معهد أبحاث المواد» في دريسدن لم تتوقف على استخدام المركبات فقط، لأن العلماء تمكنوا أيضا من تزويد هذه المركبات بـ«صواريخ» منمنمة موجهة ضد الجراثيم أيضا. وتم صنع هذه المركبات الصاروخية الأسطوانية الشكل من مزيج من التيتان والذهب، واستخدموا إنزيما خاصا كمحرك ومصدر للوقود فيها. ويقول شميت إن الإنزيم يتفاعل مع بروكسيد الهيدروجين في جسم الإنسان وينتج الأكسجين والماء عن التفاعل، وهو ما يزود المركبات بقوة دافعة تحولها إلى صواريخ سريعة تتجاوز سرعتها سرعة المركبات المنمنمة بنحو 10 مرات. تعمل المركبات والصواريخ في محيط اصطناعي كما تعمل في جسم الإنسان، لكنه ظهر من التجارب أن «الصواريخ» أكثر صلاحية للاستخدام في الأوساط البيولوجية (الأنسجة الحية).

وإضافة إلى الجانب الطبي المتعلق بحياة الإنسان وجسده، يرى العلماء إمكانية استخدام تقنية المركبات المنمنمة في تنظيف الأنهار والبحار من المواد الضارة. ويمكن للمركبات والصواريخ هنا أن توجه ضد الميكروبات وضد الجزيئات الكيمائية الضارة بهدف تحطيمها إلى مركبات غير ضارة بالبيئية، أو عن طريق الاتحاد معها لإنتاج مواد رئيفة بالبيئة المائية.

يذكر أن الجدل حول منافع ومضار التقنية النانوية ما زال ساخنا رغم التطور السريع الذي تحرزه هذه التقنية. ويقول معارضو استخدام هذه التقنية، إن العلم لم يسبر غور كل مضارها وأعراضها الجانبية على الإنسان والبيئة. وهذا يجعلهم يصنفونها إلى جانب النباتات المعدلة وراثيا التي لا يعرف الإنسان كثيرا حتى الآن عن تفاعلاتها ومضاعفاتها. مع ذلك، فإن عجلة التطور«النانوية» تسير، وتطرح الشركات في السوق منذ سنوات أنواعا جديدة من الأنسجة والأدوية والمواد التي تمتد بين الأقمشة التي لا تبتل بالماء، وقنان معجون الطماطم (الكاتشب) المكسوة بطبقة رقيقة من المواد النانوية التي تضمن نزول كل المحتويات من القنينة دون أن تلتصق بجدرانها.

أحد هذه الاكتشافات المثيرة للجدل وقع عليه العلماء الأميركان صدفة قبل سنوات؛ إذ اكتشف علماء جامعة «سنرتال فلوريدا»، في معرض بحثهم على الجزيئات النانوية المضادة للتأكسد، تأثيرا مفاجئا لهذه الجزيئات على دماغ الإنسان.

وذكرت مصادر الجامعة أن الباحثة راوزيغالينسكي توصلت إلى أن الجزئيات النانوية المضادة للتأكسد ضاعفت عمر خلايا أدمغة الفئران أربع مرات؛ إذ من المعتاد أن تعيش خلايا أدمغة الفئران لفترة أقصاها 3 أسابيع في المستنبتات المختبرية، في حين أنها عاشت فترة أطول بثلاث أو أربع مرات حينما وضعت في وسط من الجزيئات النانوية.

ويبدو أن الجزيئات النانوية جددت حياة خلايا الدماغ أيضا لأن الفحوصات التي أجرتها راوزيغالينسكي وفريق عملها تثبت أن هذه الخلايا كانت تتصل بعضها ببعض مثل الخلايا العصبية الجديدة. علما أن راوزيغالينسكي توصلت قبل فترة إلى أن الجزيئات النانوية تتمتع بالقدرة على وقف تقدم الالتهابات أيضا. ويدرس علماء الجامعة حاليا استخدامها في أجزاء القلب والشرايين والمفاصل التي تزرع في الجسم. وتثبت نتائج الأبحاث الأولية أن الجزيئات النانوية المضادة للتأكسد تتغلغل إلى الخلايا وتحفز تجديدها لنفسها. وهذا يعني وجود إمكانية غير محددة لاستخدامها في الطب العلاجي.

وإذ تحدث العلماء عن آفاق واسعة أمام معالجة الأمراض التي تتعلق بتقدم سن الخلايا بتأثير الراديكالات الحرة، كما في مرض ألزهايمر والتهاب المفاصل وبعض أنواع الأورام السرطانية، قال معارضو استخدام التقنيات النانوية إن الجزيئات قد تؤدي إلى أضرار غير محسوبة على أعضاء الجسم الأخرى.