السعادة من خلال الفيديو أرت

في معرض «العيد في تريمالشيو» بمتحف جنوب أستراليا

متحف جنوب استراليا («الشرق الأوسط»)
TT

هل تستمر المتعة إلى الأبد؟ ربما نعم وربما لا. لكن الواقع يبدو أكثر ميلا لقول لا جازمة فيما يتعلق باستمرار هذه المتعة، كما باستمرار الأشياء كافة. غير أن المتعة، التي دوما ما تكون هدفا منشودا للجميع، لا تملك في أحسن الأحوال سوى أن تنهار أمام الكوارث والمآسي البشرية. أو في أسوئها تختفي بكامل مميزاتها وتيماتها الخاصة والمعبرة عنها.

على أن المتعة التي تعرفها الفلسفة، بذروة السعادة، يعبر عنها، في أغلب الأحيان، بأشياء تبدو هشة وواهنة أمام قوة الطبيعة من جهة، وقوة المأساة من جهة أخرى. فالموت الذي يخطف الأرواح يخطف المتعة أيضا، ويخطف السعادة، وفوق كل هذا يخطف الحياة نفسها. هو أقسى أنواع المآسي، التي تصيب البشر، ولا حل له. فيما تعد المآسي الأخرى مثل المجاعات والكوارث الطبيعية والحروب والأوبئة، التي تترك أمراضا فتاكة. أقل مستوى منه، وأقل ألما، رغم أنها تصيب مروحة واسعة من البشر، في الآن نفسه، ويكون ضررها على البشرية، نفسها، أعم وأشمل.

في رائعته «العيد في تريمالشيو» يبني غاري هيل تصورا للسعادة من خلال الفيديو أرت. العيد الذي يبدو دائما وأبديا، في هذا العمل، الذي يعرضه متحف جنوب أستراليا، والذي فاز في عام 2009 بالجائزة الأولى في بينالي فينيسيا. عيد يقتصر على النخبة الباذخة الثراء، أو هكذا، على الأقل، يصور.

يبني غاري هيل مجموعة البشر التي تسكن مدينته الفاضلة، الممتلئة بالسعادة، من كل الأعراق والأجناس البشرية. نشاهد العرب والأوروبيين والآسيويين والأفارقة والأميركيين. نشاهد أيضا، وجوههم الممتلئة بالسعادة، تريمالشيو، الجزيرة التي في الوسط المائي الذي يحيط بها من كل جانب، سفينتان كبيرتان لنقل الركاب، الذي يصلون مع أمتعتهم إلى تريمالشيو بكامل أناقتهم إلى ملاعب الغولف وأيضا الكثير من المتع الأخرى كما لو أنها تتم في منتجع استوائي في جهة ما من العالم. نعرف العرب من زيهم التقليدي، الزي العربي الذي ما يزال مستخدما لغاية اليوم. العربي لا يعرف من شكله، إذا كان رجلا، أما المرأة فتعرف من عينيها. لا شيء يوازي، على الأرجح، بين كل سكان الكوكب من النساء، جمال عيون النساء العربيات.

في هذا العمل لا يظهر واضحا من المرأة العربية، سوى عينيها. الدلالة هنا، بعيدة عن النقاش الدائر في العالم. خاصة أوروبا، حول البرقع وتغطية الرأس وباقي الجسم. غاري هيل يظهر المرأة العربية بزيها التقليدي، الذي لا يحجب عنها الإحساس بالسعادة أو الحركة أو الاختلاط بمجتمعات أخرى. فبغض النظر عن الموقف الذي درج أوروبيا منذ سنوات عدة، ولا يزال، حول الاختلاط بين النساء والرجال وحول طبيعة الألبسة التي لها جذور ثقافية ودينية. فإن اللباس العربي للمرأة وتغطيتها لرأسها، يندرج ضمن تقاليد اجتماعية مشرقية صرفة تراعي التراث الثقافي الذي تعيشه مجموعة من البشر تسمى العرب. اللافت في هذا العمل، أنه وضع المرأة العربية بزيها التقليدي، كعنصر مكون للمجموعات البشرية كافة، كونها حاملة لتراث ثقافي وهوية ثقافية يعبر عنها من خلال الزي. وإذا ما نظرنا مليا إلى تاريخ العمل 2009 نجد أنه يجيب عن أسئلة جوهرية في نظرة الغرب للعرب.

هيل أحد رواد الفيديو أرت، لم يقدم في هذا العمل، الشيق، أفكارا حول الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وغيرها من الأفكار، التي يعمل عليها الفن المعاصر في كثير من الأحيان. بل غاص في عمق الفلسفة، منتشلا مدينة أفلاطون من سباتها ليقدم مثيلا لها قابلا للنقد وقابلا للتشريح وقابلا فوق هذا كله للمعايشة الإنسانية، في حين أنه أكثر قبولا للنسف تماما. هيل الذي بدأ التجريب المتوسط منذ أوائل السبعينات، قدم خلاصة فكرية تزيح من طريقها الكثير من النظريات المنتشرة حول السعادة في كل العالم، خاصة أميركا، البلد الذي جاء منه. إذ قد يقول قائل، بأن هيل أراد من خلال هذا الفيلم، عكس التجربة الاجتماعية الأميركية، مقدما إياها كنموذج للتعدد، لكنه في الوقت عينه، قام بهدمها بعد بنائها، فالإنسان السوبر مان الذي بشرت به مقولات أميركية، وساهمت السينما في تقديمه كمخلوق متطور لم يلبث أن دمر نفسه بنفسه، حمل هذا النموذج الإنساني، الأميركي، صواقع تفجير نفسه إن فشل، وهذا ما حصل. لكن التفجير ليس بسبب أخطاء في البنية السوبرمانية، بل في فهمه لواقع الأمور ولتعاطيه الثقافي مع الآخرين. في عالم اليوم لا ينجح السوبرمان الغازي للثقافات والشعوب. فالعولمة، حتى الاقتصادية تقوم على الشراكة لا على الإلغاء.

يجيب عمل هيل عن العديد من الأسئلة التي ينتجها العالم يوميا. وهو إن صح القول صيغة معاصرة للفلسفة بكل تعقيداتها، ومنهجيتها، وصيغها الماضية والحاضرة. ولهذا فإنه أقام من خلال الفيديو أرت أسئلته الخاصة من أجل أن يقيم كل مشاهد أسئلته الخاصة أيضا. ما دمنا نعيش في عالم فيه الكثير من الأسئلة التي لا أجوبة عنها.