معرض في «اللوفر» للنمساوي الذي نحت الألم الإنساني

عاش ميسرشميت ومات وهو يخفي «رؤوسه الملعونة» عن الأنظار

TT

ليست كل المنحوتات المستوحاة من أشكال البشر جميلة، ولا كل الوجوه نضرة وقوية وذات جاذبية للفنان لكي يأخذ ريشته، أو أزميله، ويعمل على تقليدها. ففي متحف «اللوفر» في باريس، يقام حاليا معرض لأعمال النحات فرانز إكزافييه ميسرشميت، يشتمل على وجوه ذات تعبيرات غريبة وغير مألوفة. إنها تحولات الكائن البشري تبعا لأحاسيسه وردود الفعل التي ترتسم على سحنته إزاء مواقف الحياة المتباينة.

يقترح القائمون على المعرض تقسيمه إلى ثلاثة موضوعات؛ أبرزها تلك المنحوتات التي تندرج تحت عنوان «رؤوس ذات شخصية»، وهي عبارة عن تماثيل نصفية و«بورتريهات» لبشر متألمين أو غاضبين أو في لحظة انشراح. ويبدو أن الفنان النمساوي الألماني الذي عاش في القرن الثامن عشر، كان يحتمي بتلك المنحوتات من الأرواح الشريرة ويحاول أن يسقط عليها آلامه الخاصة، حسب ما يرويه دليل المعرض. وهو قد عانى طويلا من أمراض في الأحشاء والساقين، ومر بفترات من الألم الممض، كان يجلس خلالها أمام المرآة لكي ينقل، على الكتلة الصماء المثبتة على منصة أمامه في مشغله، تعبيرات وجهه في تلك اللحظات العصيبة. وكان يعمل وكأنه يريد أن يخلد لحظة الانفعال غير العادي، حين تعكس الملامح ما في الداخل من اضطرابات. لكن ليست كل الأعمال المعروضة هي من نوع المنحوتات الذاتية «أُوتو بورتريه»، فقد كانت أغلب الأعمال التي تركها لنا الفنان عبارة عن منحوتات لشخصيات تاريخية عاصرها واقترب منها.

بدأ ميسرشميت حياته الفنية في فيينا عام 1755، وكشفت أعماله الأولى عن موهبة أتاحت له أن يتلقى طلبات لنحت المجسمات من شخصيات مهمة، مثل الإمبراطور فرانسوا الأول وزوجته ماري تيريز. والغريب أن التاريخ يسجل لنا أن الفنان عاش من هذا العمل ولم يكن له غيره، لكنه كان يرفض بيع منحوتاته المتميزة ويحتفظ بها في المنزل الذي أقام فيه في بريسبورغ، المدينة التي صارت تسمى اليوم براتيسلافا، عاصمة سلوفاكيا. وهناك وقعت عينا ناشر ألماني على تلك التماثيل، عام 1781، وأدرك أنه إزاء فنان كبير مجهول ويجب اكتشافه.

حاول النحات الذي عمل مدرسا مساعدا في الأكاديمية الملكية في فيينا، الحصول على وظيفة أستاذ كامل الأهلية، لكن طلبه رفض تحت ذريعة ما قيل إنه «اضطرابات عقلية». وإثر ذلك غادر ميسرشميت المدينة التي عرف فيها طعم النجاح ليقيم في بريسبورغ، بقرب شقيقه. ويبدو أنه كان يعمل بنشاط، في إنجاز منحوتات تجارية، بحيث اشترى منزلا مستقلا وراح يكرس وقته لنحت ميداليات من مادة جبسية بيضاء ويزينها بنقوش دقيقة. أما «رؤوسه الملعونة» والمتوجعة إلى حد التشنج والصارخة من شدة الألم، فكان يخفيها عن الأنظار ولا يقدمها لتجار الفن. وهكذا، ظلت تلك الأعمال حبيسة المنزل حتى عام 1793، أي بعد عشر سنوات من رحيل الفنان، حيث جمعها معرض في فيينا.

اعتبر نقاد الفن، في القرن الثامن عشر، منحوتات ميسرشميت نوعا من الأعمال المثيرة للفضول أكثر منها تماثيل فنية مثل التي كانت تحتفي بها المتاحف. وهكذا تفرقت «رؤوسه» بين الهواة وأصحاب المجموعات الخاصة. أما اليوم، فقد أصبحت من مقتنيات عدد من أكبر المتاحف العالمية، ومنها «اللوفر» في باريس و«المتروبوليتان» في نيويورك، و«البلفيدير» في فيينا و«غيتي» في لوس أنجليس. ويمكن لزائر معرضه الحالي مشاهدة 18 عملا من «الرؤوس»، أبرزها «الرجل ذو المزاج السيئ» و«الفنان كما تخيل نفسه وهو يضحك» و«الرجل المتثائب»، إلى جانب منحوتات أخرى للفنان؛ منها تمثالا الثنائي الإمبراطوري النمساوي. إنها أعمال استحقت أن ترقى إلى مستوى المتاحف نظرا للدقة المدهشة في نقل تعبيرات السحنات البشرية إلى الحجر، والعناية بالتفاصيل والتناسب. وجاء في دليل المعرض الذي يستمر حتى أواخر الشهر المقبل أنه استعراض مسرحي لإنسانية «حالمة ومتألمة وضاحكة وقلقة».